في أينية ، ومع هذا جاء لسان الشرع بالأينية في حق الحق من أجل التواطؤ الذي عليه لسان المرسل إليهم ، فقال صلىاللهعليهوسلم للسوداء : أين الله؟ فلو قالها غير الرسول لشهد الدليل العقلي بجهل القائل ، فإنّه لا أينية له ، فلما قالها الرسول وبانت حكمته وعلمه ، علمنا أنه ليس في قوة فهم هذا المخاطب أن يعقل موجده إلا بما تصوره في نفسه ، فلو خاطبه بغير ما تواطأ عليه وتصوره في نفسه لارتفعت الفائدة المطلوبة ولم يحصل القبول ، فمن حكمته أن سأل مثل هذه بمثل هذا السؤال وبهذه العبارة ، ولذلك لما أشارت إلى السماء ، قال فيها : إنها مؤمنة ، أي مصدقة بوجود الله ولم يقل عالمة ، واعلم أن إخلاف ما أوعدت به من الشر يسمّى تجاوزا ، وهذه شبهة المعتزلة ، وغاب عنها قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) وما تواطؤوا عليه أعني الأعراب ، إذا أوعدت أو وعدت بالشر التجاوز عنه ، وجعلت ذلك من مكارم الأخلاق ، فعاملهم الحق بما تواطؤا عليه ، فزلت هنا المعتزلة زلة عظيمة ، أوقعها في ذلك استحالة الكذب على الله تعالى في خبره ، وما علمت أن مثل هذا لا يسمّى كذبا في العرف الذي نزل به الشرع ، فحجبهم دليل عقلي عن علم وضع حكمي ، وهذا من قصور بعض العقول ووقوفها في كل موطن مع أدلتها ، ولا ينبغي لها ذلك ، ولتنظر إلى المقاصد الشرعية في الخطاب ، ومن خاطب ، وبأي لسان خاطب ، وبأي عرف أوقع المعاملة في تلك الأمة المخصوصة ، فنقول للمعتزلي الذي يقول بإنفاذ الوعيد فيمن مات على غير توبة. إن الله عرفنا أنّ وعيده ينفذ فيمن شاء ويغفر لمن شاء ، والخبر الإلهي الصدق لا يدخله الكذب ، فإنه محال على الجناب الإلهي ، وإن نظر العالم إلى أنّ خطاب الحق لعباده إنما يكون بحسب ما تواطؤا عليه ، وهذا خطاب عربي لسائر العرب ، بلسان ما اصطلحوا عليه من الأمور التي يتمدحون بها في عرفهم ، ومن الأمور التي يذمونها في عرفهم ، فعند العرب من مكارم الأخلاق ، أن الكريم إذا وعد وفي وإذا أوعد تجاوز وعفا ، وهي من مكارم أخلاقهم ومما يمدحون بها الكريم ، ونزول الوعيد عليهم بما هو في عرفهم ، لم يتعرض في ذلك لما تعطيه الأدلة العقلية من عدم النسخ لبعض الأخبار ولاستحالة الكذب ، بل المقصود إتيان مكارم الأخلاق يقول بعض الأعراب في كرم خلقه :
وإني إذا أوعدته أو وعدته |
|
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي |
مدح نفسه بالعفو والتجاوز عمن جنى عليه بما أوعد على ذلك من العقوبة بالعفو