وقد ورد في الصحيح ليس شيء أحب إلى الله من أن يمدح ، والمدح بالتجاوز عن المسيء غاية المدح ، فالله أولى به تعالى ، والصدق في الوعد مما يتمدح به ، فقال تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) فذكر الوعد ، فالثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات ، فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز ، قال تعالى : (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) مع أنه توعد على ذلك ، وأخبر عن الإيعاد في تمام الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) وقال في الوعيد بالمشيئة وفي الوعد بنفوذه ولا بدّ ، ولم يعلّقه بالمشيئة في حقّ المحسن ، لكن في حقّ المسيء علّق المشيئة بالمغفرة والعذاب ، والله عند ظن عبده به ، فليظن به خيرا ، والظن هنا ينبغي أن يخرج مخرج العلم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) لما كان الانتقام من رحمة المنتقم بنفسه في الخلق ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) عن مثل هذا (ذُو انتِقامٍ).
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨)
ـ الوجه الأول ـ كما كان في أول الخلق أن الأرض خلقت قبل السماء في ترتيب وجود خلق العالم ، كذلك لما وقع التبديل ابتدأ بالأرض قبل السموات ، فوقف الخلق على الجسر دون الظلمة ، وبدل الأرض غير الأرض ، لا في الصفة ، فلو كان في الصفة ما ذكر العين ، فبدل الأرض والسماء في العين ـ الوجه الثاني ـ تبدل الأرض كيف شاء سبحانه إما بالصورة وإما بأرض أخرى ما نيم عليها تسمى بالساهرة ـ الوجه الثالث ـ إذا بدلت السماء والأرض فإنما يقع التبديل في الصور لا في الأعيان ، فقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) التبديل في الصفة لا في العين ، فتكون أرض صلاح لا أرض فساد ، وتمد مد الأديم فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا (وَالسَّماواتُ) هنا هي السموات المعروفة ، وهي السبع السموات خاصة ، لا السماء ذات البروج ، ولا فلك المنازل الذي هو سقف النار ، فإن ما دون فلك المنازل يخرب نظامه وتبدل صورته ويزول ضوء كوكبه (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٤٩)