(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٨)
(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) وذلك مثل من ردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ، وما يلزم العالم حضوره دائما مع علمه ، فهكذا حال الجنين إذا خرج من بطن أمه (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اعلم أن الله أعطى كل شيء خلقه ، فأعطى السمع خلقه فلا يتعدى إدراكه ، وجعل العقل فقيرا إليه ، يستمد منه معرفة الأصوات وتقطيع الحروف وتغيير الألفاظ وتنوع اللغات ، فيفرق بين صوت الطير وهبوب الرياح وصرير الباب وخرير الماء وما أشبه هذه الأصوات كلها ، وليس في قوة العقل من حيث ذاته إدراك شيء من هذا ما لم يوصله إليه السمع ، وكذلك القوة البصرية جعل الله العقل فقيرا إليها فيما توصله إليه من المبصرات ، فلا يعرف الخضرة ولا الصفرة ولا ما بينهما من الألوان ما لم ينعم البصر على العقل بها ، وهكذا جميع القوى المعروفة بالحواس ، فالسمع والأبصار والأفئدة أنوار جعلها الله فيك تدرك بها الأشياء ، وقدّم تعالى السمع على العلم والبصر فإن أول شيء علمناه من الحق وتعلق به منا القول منه والسمع منا ، فكان عنه الوجود ، وكما لم يصح الوجود ـ أعني وجود العالم ـ إلا بالقول من الله والسماع من العالم ، لم يظهر وجود طرق السعادة وعلم الفرق بينها وبين طرق الشقاء إلا بالقول الإلهي والسماع الكوني ، فجاءت الرسل بالقول جميعهم من قرآن وتوراة وإنجيل وزبور وصحف ، فما ثمّ إلا قول وسماع ، غير هذين لم يكن ، فلو لا القول ما علم مراد المريد ، ما يريده منا ، ولو لا السمع ما وصلنا إلى تحصيل ما قيل لنا ، فبالقول نتصرف ، وعن القول نتصرف مع السماع ، فهما مرتبطان لا يصح استقلال واحد منهما دون الآخر ، وهما نسبتان ، فبالقول والسماع نعلم ما في نفس الحق ، إذ لا علم لنا إلا بإعلامه بقوله ، ومن وجه آخر : حقيقة السمع أن لا يتقيد المسموع بجهة معينة ، بخلاف البصر الحسي فإنه يتقيد إما بجهة خاصة معينة وإما بالجهات كلها ، والسمع ليس كذلك ، فإن متعلقه الكلام ، فإن كان المتكلم ذا جهة أو في جهة فذلك راجع إليه ، وإن كان لا في جهة ولا ذا جهة فذلك راجع إليه لا للسامع ، فالسمع أدل في التنزيه من البصر ، وأخرج من التقييد