همة الداعي ـ الذي هو المبلغ ـ وإنما قبل من حيث ما وهبه الله في خلقه من مزاج يقتضي له قبول هذا وأمثاله ، وهذا المزاج الخاص لا يعلمه إلا الله الذي خلقهم عليه ، وهو قوله تعالى : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فلا تقل بعد هذا إذا حضرت مجلس مذكر داع إلى الله فلم تجد أثرا لكلامه فيك أن هذا من عدم صدق المذكر ، لا بل هو العيب منك من ذاتك ، حيث ما فطرك الله في ذلك الوقت على القبول ، فإن المنصف ينظر فيما جاء به هذا الداعي المذكر ، فإن كان حقا ولم يقبله فيعلم على القطع أن العيب من السامع لا من المذكر ، فإذا حضر في مجلس مذكر آخر وجاء بذلك الذكر عينه وأثر فيه ، فيقول السامع بجهله : صدق هذا المذكر ، فإن كلامه أثر في قلبي ، والعيب منك وأنت لا تدري ، فلتعلم أن ذلك التأثير لم يكن لقبولك الحق ، فإنه حق في المذكرين في نفس الأمر ، وإنما وقع التأثير فيك في هذا المجلس دون ذلك لنسبة بينك وبين هذا المذكر ، أو بينك وبين الزمان ، فأثر فيك هذا الذكر ، والأثر لم يكن للمذكر إذ قد كان الذكر ولا أثر له فيك ، وإنما أثرت المناسبة التي بيّنتها لك ، الزمانية أو النسبة التي بينك وبين المذكر ، وربما أثر لاعتقادك فيه ولم يكن لك اعتقاد في ذلك الآخر ، فما أثر فيك سواك أو ما أشبه ذلك ، وأقل فائدة في هذه المسئلة سلامة المذكر من تهمتك إياه بعدم الصدق في تذكيره ورده وردك الحق ، فإن السليم العقل يؤثر فيه الحق جاء على يد من جاء ، ولو جاء على لسان مشرك بالله ، عدو لله كاذب على الله ممقوت عند الله ، لكن الذي جاء هو به حق ، فيقبله العاقل من حيث ما هو حق لا من حيث المحل الذي ظهر به ، وبهذا يتميز طالب الحق من غيره.
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧)
(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي اعلم أن صبرك ما كان إلا بالله ، ما كان من ذاتك ولا من حولك وقوتك.
(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨)