قبوله للحكم الإلهي بحسب ذلك ، فإما مخالف وإما موافق ، ومن كان هذا حاله كيف يتعلق به ذم ذاتي؟ والأعراض لا ثبات لها ، فالجود الإلهي مطلق والمنع عدم القبول ، فمن المفيض المعطي وجود جود صرف خالص محض ، وما ثم إلا عطاء في عين منع ومنع في عين عطاء ، فحضرة المنع تعطي المنع بعطاء العين ، فالمنع تبع ، فإن المحل إذا كان في اللون الأبيض فقد أعطاه البياض ، وعين إعطاء البياض منع ما يضادّه من الألوان ، لكن ليس متعلق الإرادة إلا إيجاد عين البياض فامتنع ضده بحكم التبع ، وهكذا كل ضد في العين ، فالله يعطي على الدوام والمحال تقبل على قدر حقائق استعداداتها ، فترد الآية مثلا من كتاب الله واحدة العين على الأسماع ، فسامع يفهم منها أمرا واحدا ، وسامع آخر لا يفهم منها ذلك الأمر ويفهم منها أمرا آخر ، وآخر يفهم منها أمورا كثيرة ، ولهذا يستشهد كل واحد من الناظرين فيها بها لاختلاف استعداد الأفهام ، فإذا فهمت هذا علمت أن عطاء الله ليس بممنوع ، إلا أنك تحب أن يعطيك ما لا يقبله استعدادك ، وتنسب المنع إليه فيما طلبته منه ، ولم تجعل بالك إلى الاستعداد الذي هو على ترتيب الحكمة الإلهية في العالم وما تعطيه حقائق الأشياء ، والكل من عند الله ، فمنعه عطاء وعطاؤه منع ، ولكن بقي لك أن تعلم لكذا ومن كذا ، وفي هذه الآية إشارة إلى عدم سرمدة العذاب على أهل النار ، فعطاؤه تعالى عين الرحمة التي سبقت ، فوسعت كل شيء من مكروه وغيره وغضب وغيره ، فما في العالم عين قائمة ولا حال إلا ورحمة الله تشمله وتحيط به ، وهي محل له ولا ظهور له إلا فيها ، فبالرحمن استوى على العرش ، وما انقسمت الكلمة إلا من دون العرش من الكرسي فما تحته ، فإنه موضع القدمين وليس سوى انقسام الكلمة ، فظهر الأمر والخلق ، والنهي والأمر ، والطاعة والمعصية ، والجنة والنار ، كل ذلك عن أصل واحد وهي الرحمة التي هي صفة الرحمن.
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١)
إنما ظهر الفضل في العالم ليعلم أن الحق له عناية ببعض عباده وله خذلان في بعض عباده.
(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ