إضافي لما غاب عنا ، ـ الوجه الرابع ـ (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) والمتكلم الحق ، ولا أعلم ما فيها فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث أنه قائل وذو أثر (إِنَّكَ أَنْتَ) فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه إذ لا يعلم الغيب إلا الله. ـ الوجه الخامس ـ من المتشابه صفة النفس في قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) لأن النفس في اللغة تستعمل لمعان كلها تتعذر في الظاهر ها هنا ، وقد أوّلها العلماء بتأويلات منها أن النفس عبر بها عن الذات والهوية ، وهذا وإن كان سائغا في اللغة ولكن تعدى الفعل إليها بواسطة «في» المقيدة للظرفية محال ، لأن الظرفية يلزمها التركيب ، والتركيب في ذاته محال. وقد أولها بعضهم بالغيب أي ولا أعلم ما في غيبك وسرك وهذا حسن لقوله (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وإذا كنا قد فسرنا ظلل غمامه وظلة غمام آياته بالصورة التي يأتي فيها ربنا يوم القيامة ، فنفسه هي أم كتابه وهي الآيات المحكمات ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) والآيات المحكمات هي الآيات الدالة على وحدانيته كما سبق أن أوضحناه ، فقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) إذا أخرجته على هذا تطلع على أسرار بديعة ، وذلك أن السياق اشتمل على سؤال عيسى عليهالسلام عما بلغه لبني إسرائيل ، هل أمرهم بتوحيد ربهم؟ أو بأن يعبدوا له ولأمه؟ ومن المعلوم أنه : لم يكن أمرهم إلا بالتوحيد ، فلما أراد أن يخبر بذلك تلطف في الإخبار به إجمالا وتفصيلا ، أما تفصيلا فبقوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ـ الآية ـ وأما إجمالا فبقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) فقوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي أم كتابك المشتمل على سر قدرك ، وأن القلم جرى فيه بكفرهم. وقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي ما في أم كتابي ، وهو ما كتبه الله له من بينات التوحيد ، وأيده به من روح القدس ، ومن شأن المحجوبين عن الله تعالى من أرباب الرياسة موادعة من عبدهم ، وعبد أقاربهم لأجلهم ، وأهل القلوب المؤمنة يبرؤون من ذلك بمقتضى قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) ـ إلى قوله ـ (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ومن المعلوم أن عيسى عليهالسلام كتب في قلبه الإيمان وأيد بالروح ، فلهذا قال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي ما كتبته من الإيمان في قلبي ، وأيدتني به من الروح ، وأن ذلك ثمرة كوني لم أوادد هؤلاء الذين عبدوني وعبدوا أمي من دونك.