الثاني ـ هو القاهر بالحجة فوق عباده (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) حيث يظهر على كل صنف بما تقوم به الحجة لله عليهم. واعلم أن صفة الفوقية ونسبتها إلى الله تعالى قد جاء بها الكتاب والسنة ، كقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) وقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) وآيات كثيرة وأحاديث ، وهو معدود من المتشابه ، وذلك لأن (فَوْقَ) كلمة موضوعة لإفادة جهة العلو ، والله تعالى منزه عن الجهات ، وإنما المراد منهما حيث أطلقت في حق ربنا سبحانه إفادة العلو الحقيقي ، ومما يدل على عدم اختصاصه بجهة فوق قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) وآيات كثيرة يطول ذكرها ولو كان في جهة العلو ، تعارضت هذه الآيات واختلفت ، وهو مناف لقوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلىاللهعليهوسلم قال : [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد] فنفى تقيده بجهة فوق ، وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، والذي يجمع بين الآيات والأحاديث أن تعلم أن العلو له اعتباران : اعتبار إضافي ، واعتبار حقيقي ، فعلو المخلوقات بعضها على بعض إنما هو علو إضافي ، لأن ما من مخلوق له جهة علو إلا وهو مستفل بالنسبة إلى مخلوق آخر هو فوقه إلّا ما يشاء الله ، وهذا العلو الإضافي قسمان : قسم حسي وهو المفهوم بالنسبة إلى الجهات المكانية المخصوص بالجواهر المفتقرة إلى الحيز ، وقسم معنوي وهو المفهوم بالنسبة إلى درجات الكمال العرفاني لأرباب القلوب أو الكمال الوهمي لأرباب النفوس ، قال تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) وقال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) هذا كله في العلو الإضافي ، وأما العلو الحقيقي ، فإنما هو لله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وعلوه هذا محقق قبل الجهات والأماكن ، مفهوم بدون النسب والإضافات ، عام في جميع تجلياته على مخلوقاته ، بأسمائه وصفاته ، وإنما يعرفه ويشهده أرباب البصائر والقلوب ، لتجلي نور توحيده بعلو فوقيته ، فإذا أردت أن تحقق أن فوقيته ليست فوقية مكان ، وإنما هي الفوقية الحقيقية بقهر الربوبية للعبودية ، فتفكر في أنه تعالى كان ولا شيء معه ، ولم يتجدد له بخلقه السموات علو ، ولا بخلقه الأرض نزول ، ولا بخلقه العرش استواء ، وإنما عن تجلي أسمائه وصفاته نشأت أعداد مخلوقاته ، غير مماسة له ، ولا منتسبة إليه