في الإمكان إلا مثل ما ظهر لا أكمل منه ، ومن ذلك نعلم أن الغيب غيبان : غيب لا يوجد منه شيء فيكون شهادة ولا ينتقل إليه بعد الشهادة ، وما هو محال فيكون عدما محضا ، ولا هو واجب الوجود فيكون وجودا محضا ، ولا هو ممكن يستوي طرفاه بين الوجود والعدم ، وما هو غير معلوم ، بل هو معقول معلوم ، فلا يعرف له حد. وهو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه حيث قال : (عالِمُ الْغَيْبِ) وما قرنه بالشهادة ، والغيب الآخر الغيب الذي قرنه بالشهادة وهو الذي يوجد منه الكائنات ، والغيب الذي ينتقل إليه بعض الكائنات بعد اتصافها بالشهادة ، لذلك قال متمما : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) فإن الحق ما هو فعله مع الأغراض التي أوجدها في عباده ، وإنما هو مع ما تطلبه الحكمة ، والذي اقتضته الحكمة هو الواقع في العالم ، فعين ظهوره هو عين الحكمة ، فإن فعل الله لا يعلل بالحكمة ، بل هو عين الحكمة.
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٧٤)
لأنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم ، وعلموا أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم من الله شيئا ، فهي شهادة من الله بقصور نظرهم وعقولهم.
(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥)
اعلم أن عالم الملكوت هو المحرك لعالم الشهادة ، وهو تحت قهره وتسخيره ، حكمة من الله تعالى لا لنفسه استحق ذلك ، فعالم الشهادة لا تصدر منه حركة ولا سكون ، ولا أكل ولا شرب ، ولا كلام ولا صمت ، إلا عن عالم الغيب. وذلك أن الحيوان لا يتحرك إلا عن قصد وإرادة وهما من عمل القلب ، وهو من عالم الغيب ، والحركة وما شاكلها من عالم الشهادة ، وعالم الشهادة ما أدركناه بالحس عادة ، وعالم الغيب ما أدركناه بالخبر الشرعي ، أو النظر الفكري فيما لا يظهر للحس عادة فنقول : إن عالم الغيب يدرك بعين