الآية أن الأبصار هنا معان يدرك بها المبصرات ، ما هي تدرك المبصرات ، ولم يقل : لا يدركه البصر ، فإنه إذا كان عين الحق عين بصرك ، فيصح أن يقال مثل هذا يدركه البصر ، فينسب الإدراك إليه مع صحة كونه بصرا للعبد ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) على وجهين : الوجه الواحد ، أنه نفى أن تدركه الأبصار على طريق التنبيه على الحقائق ، وإنما يدركه المبصرون بالأبصار لا الأبصار. ـ الوجه الثاني ـ لا تدركه الأبصار المقيدة بالجارحة ، فإذا لم تتقيد أدركته ، كأن يكون الحق بصره ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يعني في كل عين من أعين الوجوه للقرب المفرط ، فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد ، ومن أعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر ، وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر ، فالبصر حيث كان ، به يقع الاشتراك ، فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ، ويسمى في الظاهر بصر العين ، والعين في الظاهر محل للبصر ، والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه ، فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه ، فكما لا تدركه العيون بأبصارها ، كذلك لا تدركه البصائر بأعينها ، فإن الحق تعالى احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار ، لذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [إن الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم] فكما لا تدركه الأبصار لا تدركه البصائر وهي العقول ، لا تدركه بأفكارها ، فتعجز عن الوصول إلى مطلوبها والظفر به ، مع أنه سبحانه لم ينف عن إدراكه قوة من القوى التي خلقها إلا البصر ، فمنع ذلك شرعا ، وما قال : لا يدركه السمع ولا العقل ولا غيرهما من القوى الموصوف بها الإنسان ، كما لم يقل أيضا : إن غير البصر يدركه ، بل ترك الأمر مبهما ، فمن زعم أنه يدركه عقلا ولا يدركه بصرا ، فمتلاعب لا علم له بالعقل ولا بالبصر ، ولا بالحقائق على ما هي عليه في أنفسها ، كالمعتزلي فإن هذه رتبته ، فللأبصار إدراك وللبصائر إدراك ، وكلاهما محدث ، فإن صح أن يدرك بالعقل وهو محدث ، صح أو جاز أن يدرك بالبصر ، لأنه لا فضل لمحدث على محدث في الحدوث ، وإن اختلفت الاستعدادات فجائز على كل قابل للاستعدادات أن يقبل استعداد الذي قيل فيه : إنه أدرك الحق بنظره الفكري ، فإما أن ينفوا ذلك جملة واحدة ، وإما أن يجوزه جملة واحدة ، وإما أن يقفوا في الحكم فلا يحكمون فيه بإحالة ولا جواز ، حتى يأتيهم تعريف الحق نصا لا يشكون فيه ، أو يشهدونه في نفوسهم ، قال عزوجل لموسى عليهالسلام : (لن تراني)