الألفاظ الواردة إلى الله تعالى كما نسبها لنفسه ، ولا يتحكم في شرحها بمعان لا يفهمها أهل ذلك اللسان الذي نزلت به هذه الألفاظ بلغتهم ، فنكون ممن يحرفون الكلم عن مواضعه ، ومن الذين يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون بمخالفتهم ، ونقرّ بالجهل بكيفية هذه النسب ، وهذا هو اعتقاد السلف قاطبة من غير مخالف في ذلك.
(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (١٥)
(وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) لما كان العفو يجمع بالدلالة بين الضدين القليل والكثير ، فإنه في المؤاخذة على الذنوب في قوله ويعفو عن كثير يأخذ على القليل ، فيدل هذا العفو على أنه لا بد من المؤاخذة ولكن في قلّة ، والقلة قد تكون بالزمان الصغير المدّة ، ثم يغفر الله ويجود بالإنعام ، ورفع الألم عن المذنب المسلم ، وقد يكون بالحال ، فيقلّ عليه الآلام ، بالنظر إلى آلام هي أشدّ منها ، فثمّ ألم قليل وألم كثير ، فأهل الاستحقاق وهم المجرمون المأمورون بأن يمتازوا ، وليس إلا أهل النار الذين هم أهلها ، وهم المشركون لا عن نظر ، فيكون أخذهم بالعفو في الزمان لأن زمان العقاب محصور ، فإذا ارتفع بقي عليهم حكم الزمان الذي لا نهاية لأبده ، فزمان عذابهم قليل بالإضافة إلى حكم الزمان الذي يؤول إليه أمرهم ، فهو عفو عزوجل بما يعطي من قليل العذاب ، وهو عفو بما يعطي من كثير المغفرة والتجاوز ، فإنه عزوجل قد أمر بالعفو والتجاوز والصفح عمن أساء إلينا ، وهو أولى بهذه الصفة منا ، ولذلك كان أجر العافين على الله لكونه عفوا غفورا (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) وهو القرآن فهو نور من حيث ذاته لأنه لا يدرك لعزته ، وهو ضياء لما يدرك به ولما يدرك منه ، فبالقرآن يكشف جميع ما في الكتب المنزلة من العلوم ، وفيه ما ليس فيها ، فمن أوتي القرآن ، فقد أوتي الضياء الكامل الذي يتضمن كل علم ،