الكل إلى الرحمة وإن تخلل الأمر آلام وعذاب وعلل وأمراض مع حكم الاسم الرحمن ، فإنما هي أعراض عرضت في الأكوان دنيا وآخرة ، فانقسمت رحمته تعالى بعباده إلى واجبة وامتنان ، فبرحمة الامتنان ظهر العالم ، وبها كان مآل أهل الشقاء إلى النعيم في الدار التي يعمرونها ، وابتداء الأعمال الموجبة لتحصيل الرحمة الواجبة ، وهي الرحمة التي قال الله فيها ، لنبيه صلىاللهعليهوسلم على طريق الامتنان (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) رحمة امتنان ، وبها رزق العالم كله فعمت ، والرحمة الواجبة لها متعلق خاص بالنعت والصفات التي ذكرها الله في كتابه فقال : (فَسَأَكْتُبُها) يعني الرحمة الواسعة ، فأدخلها تحت التقييد بعد الإطلاق من أجل الوجوب ، فهي الرحمة التي أوجبها على نفسه (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) وهذه كلها واجبات ، فأوجب الرحمة لهم بلا شك ، واستوجب هؤلاء هذه الرحمة على ربهم في موطن ، بكونهم يتقون ويؤتون الزكاة على مفهوم الزكاة لغة وشرعا (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) فما كتب الله على نفسه ما كتب إلا لمن قام بحق النيابة عنه فيما استنابه ، وليس إلا المتقين ، وهم الذين جعلوا الله وقاية لهم منه ، ومن كل شيء يكون منه ، كما جعلهم الله وقاية بينه وبين ما ذمّه من الأمور مما هو خلق لله ، فينسب ذلك إلى الآلة التي وقع بها الفعل ، فلما وفّاه وقاه ، وصح له ما كتب على نفسه ، وما عدا هؤلاء فهم أهل المنن ، فنالوا أغراضهم على الاستيفاء ، ثم ان الله امتن عليهم بعد ذلك بالمغفرة والرحمة التي عم حكمها ، ومنهم من لم يتقل فيخصه بالحرمة المطلقة ، وهي رحمة الامتنان ولا تتقيد بحصر ـ تحقيق ـ قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فيها علم دقيق خفي لا يشعر به لخفائه مع ظهوره ، فإن العلماء بالله قد علموا شمول الرحمة ، والمؤمنون قد علموا اتساعها ، ثم يرونها مع الشمول والاتساع ، ما لها صورة في بعض المواطن ، ومع كونها ما لها صورة ظاهرة في بعض المواطن فإن الحكم لها في ذلك الموطن الذي ما لها فيه صورة ، ولا يكون لها حكم إلا بوجودها ، ولكن هو خفي لبطونها ، جلي لظهور حكمها ، وأكثر ما يظهر ذلك في صنعة الطب وإقامة الحدود ، فالله يقول في إقامة الحدود في حد الزاني والزانية (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) فهذا عين انتزاع الرحمة بهم ، وإقامة الحدود من حكم الرحمة وما لها عين ظاهرة ، وكالطب إذا قطع الطبيب رجل صاحب الأكله ، فإن رحمه في هذا الموطن ولم يقطع رجله هلك ، فحكم الرحمة حكم