بقطع رجله ولا عين لها ، فللرحمة موطن تظهر فيه بصورتها ، ولها موطن تظهر فيه بحكمها ، فيتخيل أنها قد انتزعت من ذلك المحل ، وليس كذلك ، وفي الأحكام الشرعية في هذه المسألة خفاء إلا لمن نور الله بصيرته ، فإن القاتل ظلما قد نزع الله الرحمة من قلبه في حق المقتول ، وهو تحت حكم الرحمة في قتله ظلما ، وبقي حكمها في القاتل ، فإما أن يقاد منه ، وإما أن يموت فيكون في المشيئة ، وإن كان القاتل كافرا فإما أن يسلم فتظهر فيه الرحمة بصورتها ، وحيثما كانت الرحمة بالصورة كانت بالحكم ، وقد تكون بالحكم ولا تكون بالصورة. واعلم أن الرحمة الإلهية التي أوجدها الله في عباده ليتراحموا بها مخلوقة من الرحمة الذاتية التي أوجد الله بها العالم حين أحب أن يعرف ، وبها كتب على نفسه الرحمة ، وهذه الرحمة المكتوبة منفعلة عن الرحمة الذاتية ، والرحمة الامتنانية هي التي وسعت كل شيء ، فرحمة الشيء لنفسه تمدها الرحمة الذاتية وتنظر إليها ، وفيها يقع الشهود من كل رحيم بنفسه ، وأما رحمة الراحم بمن أساء إليه وما يقتضيه شمول الإنعام الإلهي والاتساع الجودي ، فلا مشهد لها إلا رحمة الامتنان ، وهي الرحمة التي يترجاها إبليس فمن دونه ، لا مشهد لهؤلاء في الرحمة المكتوبة ولا في الرحمة الذاتية ، وبهذا كان الله والرحمن دون غير الرحمن من الأسماء له الأسماء الحسنى ، فجميع الأسماء دلائل على الاسم الرحمن وعلى الاسم الله ، ولكن أكثر الناس لا يشعرون ، فإن الرحمة الإلهية وسعت كل شيء ، فما ثم شيء لا يكون في هذه الرحمة ، إن ربك واسع المغفرة ، فلا تحجروا واسعا ، فإنه لا يقبل التحجير ، قال بعض الأعراب : يا رب ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. والنبي صلىاللهعليهوسلم يسمعه. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : يا هذا لقد حجّرت واسعا ، يعني حجّرته قولا وطلبة ، قال سهل بن عبد الله : لقيت إبليس فعرفته وعرف مني أني عرفته ، فوقعت بيننا مناظرة ، فقال لي وقلت له ، وعلا بيننا الكلام وطال النزاع ، بحيث أن وقفت ووقف ، وحرت وحار ، فكان من آخر ما قال لي : يا سهل الله عزوجل يقول : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فعمّ ، ولا يخفى عليك أني شيء بلا شك ، لأن لفظة كل تقتضي الإحاطة والعموم ، وشيء أنكر النكرات ، فقد وسعتني رحمته ، قال سهل : فو الله لقد أخرسني وحيّرني بلطافة سياقه ، وظفره بمثل هذه الآية ، وفهم منها ما لم نفهم ، وعلم منها ما لم نعلم ، فبقيت حائرا متفكرا وأخذت أتلو الآية في نفسي ، فلما جئت إلى قوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها) الآية ، سررت وتخيلت أني قد ظفرت بحجة وظهرت عليه بما يقصم