فكانت الفطرة إنما هي بوجود الحق والملك لا بالتوحيد ، وبعد هذا الميثاق يولد كل بني آدم على الفطرة وهو قوله صلىاللهعليهوسلم : [كل مولود يولد على الفطرة] وهو الميثاق الخالص لنفسه ، فقولهم «بلى» هي الفطرة التي ولد الناس عليها ، وإليها ينتهون ، ومن هنا نعلم أن الإيمان في حق الرضيع أثبت ، فإنه ولد على الفطرة ، فطرة الإيمان ، وهو إقراره بالربوبية لله تعالى على خلقه ، حين الأخذ من الظهر والإشهاد ، وما نقل إلينا أنه طرأ أمر أخرج الذرية عن هذا الإقرار وصحته قبل أن يولد ، فلما ولد ولد على تلك الفطرة الأولى ، فإن الروح الإنساني لما خلقه الله خلقه كاملا بالغا عاقلا عارفا مؤمنا بتوحيد الله ، مقرا بربوبيته ، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ولو لا ما هو عاقل بذاته ، وهو عقل لنفسه ، ما أقر بربوبية خالقه عند أخذ الميثاق منه بذلك ، إذ لا يخاطب الحق إلا من يعقل عنه خطابه ، ومن هذا الجمع قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الأرواح أجناد مجندة ، فإنه لما جمعهم جمعهم في حضرة التمثيل ، فما كان وجها لوجه هناك تعارفوا هنا ، وما وقع ظهرا لظهر هناك تناكر هنا ، وما بينهما من وجه إلى ظهر وجانب وغير ذلك ، وبهذا الإقرار كل أحد يقر بهذه الشهادة في الآخرة ، ولا ينكر ولا يدعي لنفسه ربوبية ، وثبت بهذا الإقرار الاسترقاق لله على بني آدم ، فطولبوا بالوفاء بحق العبودية لهذا الإقرار ، ولذلك فإن العبد إذا اشتراه الإنسان من غيره فمن شرطه أن يقر العبد لبائعه بالملك ، ولا يسمع مجرد دعواه في أنه مالك له ، ولا يقوم على العبد حجة بقول سيده ما لم يعترف هو بالملك له ، ويغفل عن هذا القدر كثير من الناس ، فإن الأصل الحرية ، واستصحاب الأصل مرعي ، وبعد الاعتراف بالملك صار الاسترقاق في هذه الرقبة أصلا يستصحب ، حتى تثبت الحرية إن ادعاها ، هكذا هو الأمر ، ولما أخذ الله تعالى الميثاق والعهد في قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ألقمه الحجر الأسود ، وأمر بتقبيله تذكرة ، وأخبر بلسان الرسول صلىاللهعليهوسلم أن الحجر يمينه ، ولا تصح المعصية إلا بعد العقد ، ولذلك كان الابتلاء أصله الدعوى ، فمن لا دعوى له لا ابتلاء يتوجه عليه ، ولهذا ما كلفنا الله حتى قال لنا : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فقلنا : (بَلى) فإقرارنا بربوبيته علينا عين إقرارنا بعبوديتنا له ، والعبودية بذاتها تطلب طاعة السيد ، فلما ادعينا ذلك ، حينئذ كلفنا ليبتلي صدقنا فيما ادعيناه ، وأوجدنا في هذه الدنيا على تلك الفطرة ، فادعى المؤمن الإيمان وهو التصديق بوجود الله وأحديته وأنه لا إله إلا هو إلى غير ذلك ، فلما ادعى بلسانه أن هذا مما انطوى