وبما جاء من عند الله على لسان رسول الله ، هذا في هذه الأمة التي عمت دعوة رسولها ، وأما في النبوة الأولى ممن كان في فترة من الرسل ، فإنه يرزق ويحبب إليه الشغل بطلب الرزق أو بالصنائع العملية أو الاشتغال بالعلوم الرياضية من حساب وهندسة وهيئة وطب وشبه ذلك ، من كل علم لا يتعلق بالإله ، فإن كان مصطفى ويكون نبيا في زمان النبوة في علم الله ، فيأتيه الوحي وهو طاهر القلب من التقييد بإله محصور في إحاطة عقله ، وإن لم يكن نبيا وجاء رسول إلى أمة هو منها قبل ما جاءه به نبيه ، ذلك لسذاجة محله ، ثم عمل على إيمانه واتقى ربه رزقه الله عند ذلك فرقانا في قلبه وليس لغيره ذلك ، هكذا أجرى الله عادته في خلقه ، وإن سعد صاحب النظر العقلي فإنه لا يكون أبدا في مرتبة الساذج الذي لم يكن عنده علم بالله إلا من حيث إيمانه وتقواه ، وهذا هو وارث الأنبياء في هذه الصفة ، فهو معهم وفي درجتهم هذه ، وهذا الفرقان الذي تعطيه التقوى ، لا بد أن يكون فرقانا خاصا ، وليس سوى الفرقان الذي يكون في عين القرآن ، فإن القرآن يتضمن الفرقان بذاته ، وهذا الفرقان نتيجة العامل بالقرآن العظيم ، وتختلف نتائج القرآن باختلاف نعوته ، فالقرآن المطلق يعطي ما لا يعطيه القرآن المقيد ، وقد قيد الله قرآنه بالعظمة والمجد والكريم ، وإنما نسب الجعل إلى هذا الفرقان (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) لأن التقوى أنتجته ، فإما أن يكون جعله ظهوره لمن اتقاه مع كونه لم يزل موجود العين قبل ظهوره ، أو يكون جعله خلقه فيه بعد أن لم يكن ، وما هو إلا الظهور دون الخلق ، فإنه أعقبه بقوله : (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ) أي يستر ، والستر ضد الظهور ، فلا يخلو العبد في تقواه ربه ، أن يجعل نفسه وقاية له عن كل مذموم ، وينسب إليه ، أو يجعل ربه وقاية عن كل شدة لا يطيق حملها إلا به ، وهو لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيتلقى به شدائد الأمور ، ومن وجه آخر (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي يستر عنكم ما يسوءكم فلا ينالكم ألم من مشاهدته ، فإن رؤية السوء إذا رآه من يمكن أن يكون محلا له ـ وإن لم يحل به ـ فإنه تسوءه رؤيته ، وذلك لحكم الوهم الذي عنده والإمكان العقلي (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي ويستر من أجلكم ممن لكم به عناية في دعاء عام أو خاص معين ، فالدعاء الخاص ما تعين به شخصا بعينه أو نوعا بعينه ، والعام ما ترسله مطلقا على عباد الله ممن يمكن أن يحل بهم سوء (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) بما أوجب على نفسه من الرحمة وبما امتن به منها على من استحق العذاب كالعصاة