من كونه ذا نفس حيوانية ، فهي التي تدعي الملك ، وهي البائعة ، فباعت النفس الناطقة من الله وما كان لها مما لها به نعيم من مالها بعوض وهو الجنة ، فالبيع والشراء معاوضة ، والسوق المعترك ، فاستشهدت فأخذها المشتري إلى منزله وأبقى عليها حياتها حتى يقبض ثمنها الذي هو الجنة ، فلهذا قال في الشهداء : إنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين ببيعهم لما رأوا فيه من الربح ، حيث انتقلوا إلى الآخرة من غير موت ، فالإنسان المؤمن يتنعم من حيث نفسه الحيوانية ، بما تعطي الجنة من النعيم ، ويتنعم بما يرى مما صارت إليه من النعيم نفسه الناطقة ، التي باعها بمشاهدة سيدها ، فحصل للمؤمن النعيمان. فإن الذي باع كان محبوبا له ، وما باعه إلا ليصل إلى هذا الخير الذي وصل إليه ، وكانت له الحظوة عند الله حيث باعه هذه النفس الناطقة العاقلة. وسبب شراء الحق إياها أنها كانت له بحكم الأصل بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فطرأت الفتن والبلايا ، وادعى المؤمن فيها ، فتكرم الحق وتقدس ، ولم يجعل نفسه خصما لهذا المؤمن ، فتلطف له في أن يبيعها منه ، وأراه العوض ، ولا علم له بلذة المشاهدة ، لأنها ليست له ، فأجاب إلى البيع فاشتراها الله منه ، فلما حصلت بيد المشتري ، وحصل الثمن تصدق الحق بها عليه امتنانا ، لكونه حصل في منزل لا يقتضي له الدعوى فيما لا يملك وهو الآخرة. وقد مثل هذا الذي قلناه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حين اشترى من جابر بن عبد الله بعيره في السفر بثمن معلوم ، واشترط عليه البائع جابر بن عبد الله ظهره إلى المدينة ، فقبل الشرط المشتري ، فلما وصل المدينة ، وزن له الثمن ، فلما قبضه وحصل عنده وأراد الانصراف أعطاه بعيره والثمن جميعا ، فهذا بيع وشرط ، وهكذا فعل الله سواء ، اشترى من المؤمن نفسه بثمن معلوم وهو الجنة ، واشترط عليه ظهره إلى المدينة ، وهو خروجه إلى الجهاد ، فلما حصل هناك واستشهد ، قبضه الثمن ، ورد عليه نفسه ، ليكون المؤمن بجميعه متنعما ، بما تقبله النفس الناطقة من نعيم العلوم والمعارف ، وبما تعمله الحيوانية من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب وكل نعيم محسوس ، ففرحت بالمكانة والمكان والمنزلة والمنزل. ـ إشارة ـ إن من الرحمة التي تتضمنها سورة التوبة ومن التنزل الإلهي أن فيها شراء نفوس المؤمنين منهم ، بأن لهم الجنة ، وأي تنزل أعظم من أن يشتري السيد ملكه من عبده؟ وهل يكون في الرحمة أبلغ من هذا؟ (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) يعني الجنة (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) من الناس عبيد ، ومنهم أجراء ، ولأجل الإجارة نزلت الكتب