الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)
راجع الأعراف آية ٥٤ (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) العرش له الإحاطة بالأجسام ، وله الأولية في الأفلاك فما تحتها ، فهو الأول المحيط ، فاختاره الحق للاستواء لما بين الصفتين ، وإن كان العرش هو الملك ، فكل شيء ما سوى الله ملكه ، والسموات والأرض في جوف الكرسي كحلقة في فلاة ، والكرسي في جوف العرش كحلقة في فلاة (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) اعلم أن حكم المدبر في الأمور إحكامها في موضع الجمع والشهود ، وإعطاؤها ما تستحقه ، وهذا كله قبل وجودها في أعيانها ، فالتدبير هو التقدير ، فقوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يعني أن الحق على الحقيقة هو مدبر العالم ، وما وصف نفسه بذلك إلا ليعرفنا أنه ما عمل شيئا إلا ما تقتضيه حكمة الوجود ، وأنه أنزله موضعه الذي لو لم ينزله فيه لم يوف الحكمة حقها ، فلم يزل الحق في أزله مدبرا ، ولا بد أن يكون تدبيره في مدبّر معيّن له ، وليس إلا أعيان الممكنات ، فهي مشهودة له في حال عدمها ، فإنها ثابتة ، فيدبر فيها ما يكون من تقدم بعضها على بعض ، وتأخرها في تكوين أعيانها وصور ما توجد فيها ، وهنالك هو سر القدر الذي أخفى الله تعالى علمه عن خلقه ، حتى يظهر الحكم به في الصور الموجودة في رأي العين (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) الأنبياء والمؤمنون يشفعون في أهل الإيمان ، وأهل الإيمان طائفتان : منهم المؤمن عن نظر وتحصيل دليل ، وهم الذين علموا الآيات والدلالات والمعجزات ، وهؤلاء هم الذين يشفع فيهم النبيون ، ومنهم المؤمن تقليدا بما أعطاه أبواه إذ ربياه أو أهل الدار التي نشأ فيها ، فهذا النوع يشفع فيهم المؤمنون كما أنهم أعطوهم الإيمان في الدنيا بالتربية ، وأما الملائكة فتشفع فيمن كان على مكارم الأخلاق في الدنيا وإن لم يكن مؤمنا ، وما ثم شافع رابع ، وبقي من يخرجه أرحم الراحمين من النار ، وهم الذين ما عملوا خيرا قط ، لا من جهة الإيمان ولا بإتيان مكارم الأخلاق ، غير أن العناية سبقت لهم أن يكونوا من أهل الجنة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).