شيء من هذه المقامات إلا بعد تحصيل العلم الرسمي والذوقي ، فالرسمي كعلوم النظر وهو ما يتعلق بإصلاح العقائد ، وكعلوم الخبر وهو ما يتعلق بك من الأحكام الشرعية ، ولا يؤخذ منها إلا قدر الحاجة ، والذوقي علم نتائج المعاملات والأسرار ، وهو نور يقذفه الله تعالى في قلبك ، تقف به على حقائق المعاني الوجودية ، وأسرار الحق في عباده ، والحكم المودعة في الأشياء.
واعلم أن المشي في الظلمة بغير سراج وضوء في طريق كثيرة المهالك والحفر والأوحال والمهاوي والحشرات المؤذية التي لا يتقى شيء من هذا كله إلا أن يكون الماشي فيها بضوء يرى به حيث يجعل قدمه ، ويجتنب به ما ينبغي أن يجتنب مما يضره ، من مهواة يهوي فيها أو مهلك يحصل فيه أو حية تلدغه ، وليس له ضوء سوى نور الشرع الذي قال فيه تعالى (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) وقال : (نُورٌ عَلى نُورٍ) فإذا اجتمع نور الشرع مع نور بصر التوفيق والهداية بان الطريق بالنورين ، فلو كان نورا واحدا لما ظهر له ضوء ، ولا شك أن نور الشرع قد ظهر كظهور نور الشمس ، ولكن الأعمى لا يبصره ، كذلك من أعمى الله بصيرته لم يدركه فلم يؤمن به ، ولو كان نور عين البصيرة موجودا ، ولم يظهر للشرع نور بحيث أن يجتمع النوران فيحدث الضوء في الطريق لما رأى صاحب نور البصيرة كيف يسلك ؛ لأنه في طريق مجهولة لا يعرف ما فيها ولا أين ينتهي به من غير دليل وموقّف؟ فهذا الشخص الماشي في هذه الطريق إن لم يحفظ سراجه من الأهواء ، أن تطفئه بهبوبها ، وإلا هبت عليه رياح زعازع ، فأطفأت سراجه ، وذهب نوره ، وهو كل ريح يؤثر في نور توحيده وإيمانه ، فإن هبت ريح لينة تميل لسان سراجه وتحيره ، حتى يتحير عليه الضوء في مشاهدة الطريق ، فتلك الريح كمتابعة الهوى في فروع الشريعة ، وهي المعاصي التي لا يكفر بها الإنسان ولا تقدح في توحيده وإيمانه ، فلقد خلقنا لأمر عظيم ، ولكن إذا اقتحمنا هذه الشدائد ، وقاسينا هذه المكاره ، حصلنا على أمر عظيم ، وهو سعادة الأبد التي لا شقاء فيها ، فإنه لما تبينت طرق السعادة بالرسل قال تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) وما بقي بعد هذا إلا أن يوفق الله عباده للعمل بما أمرهم به من اتباع رسوله صلىاللهعليهوسلم فيما أمر ونهى ، والوقوف عند حدوده ومراسمه ؛ فإن الحق خصّ بعض عباده بالتوفيق ، ولم يعمّ كما عمّ في الرزق ، فيا ربنا خاطبتنا