ولا يكتسب الوجود إلا من كونه قابلا ، وذلك لإمكانه واقتدار الحق المخصص المرجّح وجوده على عدمه ، فلو زال القبول من الممكن لكان كالمحال لا يقبل الإيجاد ، وقد اشترك المحال والممكن قبل الترجيح بالوجود في العدم ، كما أنه مع قبوله لو لم يكن اقتدار الحق ما وجد عين هذا المعدوم الذي هو الممكن ، فلم تظهر الأعيان المعدومة للوجود إلا بكونها قابلة ، فإذا اطلعت على حقيقتك وجدت نفسك عبدا محضا عاجزا ميتا ضعيفا عدما لا وجود لك ، وأول اسم تلبسه الوجود ، فتظهر موجودا لنفسك حتى تقبل جميع ما يمكن أن يقبله الموجود من حيث ما هو موجود ، فتقبل جميع ما يخلع عليك الحق من الأسماء الإلهية ، فتتصف عند ذلك بالحي والقادر والعليم والمريد والسميع والبصير والمتكلم والشكور والرحيم والخالق والمصور وجميع الأسماء ، ومع وجود هذه الصفات لا يزول عن الإنسان حقيقة كونه عبدا إنسانا مع وجود هذه الأسماء الإلهية فيه (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الواحد من حيث ألوهته ، فلا إله إلا هو (الْقَهَّارُ) من نازعه من عباده بجهالة ولم يتب.
(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧)
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) فجعله كالباطل كما قال (وَزَهَقَ الْباطِلُ) (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ) أي يثبت (فِي الْأَرْضِ) ضربه مثلا للحق (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) فالأمثال كلها للاعتبار ليست مرادة لأنفسها ، وإنما هي مرادات لما رمزت له ، ليعلم منها ما ضربت له وما نصبت من أجله ، وهذا المثل ضربه الحق للقلوب ، مثلها بالأودية تسيل بقدرها في نزول الماء ، ليقرب تصورها على من لا يتصور المعاني من غير ضرب مثل ، فالعالم كله بما فيه ضرب مثل ليعلم أنه هو ، فجعله دليلا عليه وأمرنا بالنظر فيه ـ إشارة ـ الوادي محل التكليم والمناجاة حيث وقع لموسى عليهالسلام ما وقع ، وما سالت به الأودية