دون من سواهم بهذا التسبيح الخاص ، وهذه الآية دليل على أنه تعالى ما خلق العالم لنفس العالم ، وإنما خلقه لنفسه ، فقال فيه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فإن الله لما أوجد العالم ما خلقهم إلا ليعبدوه ويسبحوه ، فما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحه ، ففطر العالم كله على تسبيح الله وحمده وعبادته بالقصد الأول ، وكان انتفاعنا بالأشياء بحكم التبعية ، فما من شيء من العالم إلا وهو يسبح بحمد خالقه ، فلنفسه أوجده لأنه ما شغله إلا به ، وقال فيمن جعل فيه استعدادا يمكن أن يسعى به لنفسه ولغير الله ، فنبه أنه ما خلقهم إلا لعبادته فقال (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فكونهم ما فعل بعضهم ما خلق له ، لا يلزم منه بالقصد المذكور أنه خلق لما تصرف فيه ، ولذلك يسأل ويحاسب ، ومن ذلك نعلم أن كل مخلوق ما سوى الإنس والجان مفطورون على تعظيم الحق والتسبيح بحمده ، وكذلك أعضاء جسد الإنس والجان كلها ولكن لا على جهة التقريب وابتغاء المنزلة العظمى ، بل التسبيح لهم كالأنفاس من المتنفسين لما تستحقه الذات ، وهكذا يكون تسبيح الإنس والجان في الجنة والنار لا على طريق القربة ولا ينتج لهم قربة ، بل كل واحد منهم على مقام معلوم ، فتصير العبادة طبيعية تقتضيها حقائقهم ، ويرتفع التكليف ولا يتصور منهم مخالفة لأمر الله إذا ورد عليهم ، ولا يبقى هنالك نهي أصلا بعد قوله لأهل النار (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) وكلامنا إذا نزل الناس منازلهم في كل دار وغلقت الأبواب واستقرّت الداران بأهلها الذين هم أهلها ، وعلى ذلك فكل جزء من العالم مسبح لله تعالى ، وكل شيء ينزه ربه من كافر وغير كافر ، فإن أعضاء الكافر كلها مسبحة لله ، ولهذا يشهد عليه يوم القيامة جلده وسمعه وبصره ويده ورجله ، غير أن العالم لا يفقهون هذا التسبيح وسريان هذه العبادة في الموجودات ، فلم يبق كافر ولا مؤمن إلا وقد شملت تفاصيله هذه الآية ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، لأنهم لا يسمعون ولا يشهدون ، وعلماء الرسوم يخرجون هذا على أنه لسان حال ، وكذلك قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) فجعلوا هذه الإباية والإشفاق حالا لا حقيقة ، وكذلك قوله عنهما (أَتَيْنا طائِعِينَ) قول حال لا قول خطاب ، وهذا كله ليس بصحيح ولا مراد في هذه الآيات ، بل الأمر على ظاهره كما ورد ، ولو كان تسبيح حال كما يزعم بعض علماء النظر لم تكن فائدة في قوله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) يريد بذلك التسبيح الثناء على الله لا للجزاء ، لأنه في عبادة ذاتية لا يتصور معها طلب مجازاة ، وقد يعذر علماء