الله عليها. واعلم أن الكشف لا سبيل إلى حصوله إلا بعناية أزلية تعطيك استعدادا تاما لقبوله ، برياضات نفسية ومجاهدات بدنية وتخلق بأسماء إلهية ، وتحقق بأرواح طاهرة ملكية وتطهير بطهارة شرعية مشروعة لا معقولة ، وعدم تعلق بأكوان وتفريغ محل عن جميع الأغيار ، لأن الحق ما اصطفى لنفسه منك إلا قلبك حين نوّره بالإيمان فوسع جلال الحق ، فعاين من هذه صفته الممكنات بعين الحق ، فكانت له مشهودة وإن لم تكن موجودة ، فما هي له مفقودة ، وقد كشف لبصيرته بل لبصره وبصيرته نور الإيمان حين انبسط على أعين الممكنات أنها في حال عدمها مرئية رائية مسموعة سامعة برؤية ثبوتية وسمع ثبوتي لا وجود له ، فعيّن الحق ما شاء من تلك الأعيان ، فوجه عليه دون غيره من أمثاله قوله المعبر عنه باللسان العربي المترجم بكن ، فأسمعه أمره ، فبادر المأمور فتكون عن كلمته ، لا بل كان عين كلمته ، ولم تزل الممكنات في حال عدمها الأزلي لها تعرف الواجب الوجود لذاته وتسبحه وتمجده بتسبيح أزلي وتمجيد قديم ذاتي ولا عين لها موجودة ولا حكم لها مفقود ، فإذا كان حال الممكنات كلها على ما ذكرناه من هذه الصفات التي لا هل معها ، فكيف تكون في حال وجودها وظهورها لنفسها ، جمادا لا ينطق؟ أو نباتا بتعظيم خالقه لا يتحقق؟ أو حيوانا بحاله لا يصدق؟ أو إنسانا بربه لا يتعلق؟ هذا محال ، فلا بد أن يكون كل ما في الوجود من ممكن موجود يسبح الله بحمده بلسان لا يفقه ، ولحن ما إليه كل أحد يتنبه ، فيسمعه أهل الكشف شهادة ، ويقبله المؤمن إيمانا وعبادة ، فقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فجاء باسم الحجاب والستر ، وهو قوله غفورا ، وجاء بالاسم الذي يقتضي تأخير المؤاخذة إلى الآجل وعدم حكمها في العاجل ، وهو الحليم ، لما علم أن في عباده من حرم الكشف والإيمان ، وهم العقلاء عبيد الأفكار ، والواقفون مع الاعتبار ، فجازوا من الظاهر إلى الباطن مفارقين الظاهر ، فعبروا عنه إذ لم يكونوا أهل كشف ولا إيمان ، لما حجب الله أعينهم عن مشاهدة ما هي عليه الموجودات في أنفسها ، ولا رزقوا إيمانا في قلوبهم يكون له نور يسعى بين أيديهم. وأما المؤمنون الصادقون أولوا العزم من الأولياء ، فعبروا بالظاهر معهم لا من الظاهر إلى الباطن ، وبالحرف عينه إلى المعنى ، ما عبروا عنه ، فرأوا الأمور بالعينين ، وشهدوا بنور إيمانهم النجدين ، فلم يتمكن لهم إنكار ما شهدوا ، ولا جحدوا ما تيقنوه ، فأسمعهم الله نطق