ولو كان السجود بعد ظهوره بالعلم ما أبى إبليس ولا قال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ولا استكبر عليه ، ولهذا قال (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) وقال (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ثم بعد ذلك أعلم الله الملائكة بخلافته فقالوا ما أخبر الله عنهم ، ولهذا قال تعالى في بعض ما كرره من قصته (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فأتى بالماضي من الأفعال ، وبأداة إذ وهي لما مضى من الزمان ، فاجعل بالك لهذه المسئلة ، لتعلم فضل آدم بعلمه على فضله بالسجود له لمجرد ذاته ، ولماذا نهي في الشرع أن يسجد إنسان لإنسان ، فإنه سجود الشيء لنفسه ، فإنه مثله من جميع وجوهه ، والشيء لا يخضع لنفسه ، ولهذا لما سئل صلىاللهعليهوسلم في الرجل إذا لقي الرجل أينحني له؟ قال : لا ، قيل له : أيصافحه؟ قال : نعم.
(قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) (٦٢)
فقال تعالى من كرمه لإبليس وعموم رحمته.
(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (٦٣)
ومن الأمر اللطيف الذي تجعله قرائن الأحوال وعيدا وتهديدا ، والظاهر تعلق بالحكم ، لاستواء الرحمن على العرش ، واتساع الرحمة وعمومها حيث لم تبق شيئا إلا حكمت عليه ، ومن حكمها كان قوله تعالى.
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً) (٦٤)
لما كان للجن ـ شياطينهم وغير شياطينهم ـ الإغواء ، أمرهم الله من خلف حجاب البعد بالاستفزاز والمشاركة في الأموال والأولاد ، ابتلاء لهم وامتحانا ، فيقول الشيطان للإنسان اكفر ، فإذا كفر يقول الشيطان (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ولو أن هذه الآية وأمثالها فيما يختص بإبليس أوامر إلهية ، فإنها لم تكن ابتداء من الله ، فلو كانت ابتداء ما شقي إبليس ، ولكن لما كانت إجابة لإبليس لما قال (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)