فإن قيل : كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي.
فالجواب : وبصيغة المستقبل أيضا كأنه يفرض الزمان (بعد) (١) زمان الكلام كقوله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) [الكهف : ١٨].
الثاني : أن يكون المراد عامة الكفار.
وقرأ عبد الله وابن عباس وطلحة وعيسى بن عمر وابن وثاب : بالخطاب (٢). وهو حسن موافق.
فإن قيل : كيف ذمهم على اتّباع الظّنّ ونحن مأمورون باتباعه في الفقه ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ حكاية عن الله تعالى أنه قال : أنا عند ظنّ عبدي؟
فالجواب : أن الظن خلاف العلم وقد استعمل مجازا مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العالم. وحروف العلم في تقاليبها فيها معنى الظهور منها لمع البرق إذا ظهر ، ولمع الغزال إذا عدا ، وكذلك علمت.
والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئر ظنون لا يدرى أفيه (٣) ماء أم لا ؛ لخفاء الأمر فيه ودين ظنون (٤) يخفى الأمر فيه فنقول : يجوز بناء الأمر على الظن عند العجز عن درك اليقين ، وأما الاعتقاد فليس كذلك ، لأن اليقين لم يتعذّر علينا. وإلى هذا أشار بقوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين. وفي العمل يمتنع ذلك أيضا. والله أعلم (٥).
قوله : (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) نسق على (الظّن) و «ما» مصدرية ، أو بمعنى الذي.
والمراد بما تهوى الأنفس هو ما زين لهم الشيطان.
قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) يجوز أن يكون حالا من فاعل (يتّبعون) أي يتّبعون الظنّ وهوى النفس في حال تنافي ذلك وهي مجيء الهدى من عند ربهم. ويجوز أن يكون اعتراضا فإن قوله : (أَمْ لِلْإِنْسانِ) متصل بقوله : (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) ، وهي أم المنقطعة ، فتقدر ببل والهمزة على الصّحيح (٦).
قال الزمخشري : ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان (٧) ما تمنى.
__________________
(١) زيادة من الرازي وساقطة من النسختين.
(٢) هذه القراءات شاذة غير متواترة ذكرها أبو حيان في البحر ٨ / ١٦٢ و ١٦٣ والزمخشري في الكشاف دون نسبة ٤ / ٣١ والقرطبي في الجامع ١٧ / ١٠٣ و ١٠٤ ونسبها لأيوب وابن السميقع أيضا ١٧ / ١٠٣ و ١٠٤.
(٣) كذا في النسختين وفي الرازي : أفيها بتأنيث البئر.
(٤) وانظر اللسان ظنن وكذلك المحكم. اللسان ٢٧٦٤.
(٥) وانظر الرازي ٢٨ / ٣٠١.
(٦) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٣٠١ و ٣٠٢.
(٧) الكشاف ٤ / ٣١.