يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول ، بل جعلوا السلام عقيب الدخول.
قوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) خبر مبتدأ مضمر ، فقدّروه أنتم قوم ، ولم يستحسنه بعضهم (١) ؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فالأولى أن يقدر هؤلاء قوم ، أو هم قوم (٢) ، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته ، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم (٣).
وقال المفسرون : قوم منكرون أي غرباء ولا نعرفكم.
قال ابن عباس ـ (رضي الله (٤) عنهما ـ) قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نعرفهم. وقيل : إنما أنكر أمرهم ، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض (٥).
فإن قيل : قال في سورة هود : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العجل إليهم وههنا قال : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، ثم قال : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) بفاء التعقيب ، وذلك يدل على أن تقريب الطعام منهم بعد حصول إنكاره فما وجهه؟
فالجواب : أن يقال : لعلهم كانوا مخالفين لصفة الناس في الشكل والهيئة ، ولذلك قال : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، (أي) عند كل أحد (منا) ، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار ، لأن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ تفرّد بمشاهدة إمساكهم فنكرهم فوق الإنكار الأول (٦).
وحكاية الحال في سورة «هود» أبسط مما ذكره ههنا ، فإن ههنا لم يبين المبشّر به ، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم من ، وهناك قال : قوم لوط (٧).
فصل
ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليم المضيف على الضّيف ، ولقاءه بالوجه الحسن ، والمبالغة في الإكرام بقوله : (سَلامٌ) ، وهو آكد ، وسلامهم بالمصدر ، وفي قوله : سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلام عليكم ؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مسالمة ، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل
__________________
(١) لعله أبو حيان فتلك العبارات عباراته في البحر ٨ / ١٣٩.
(٢) المرجع السابق.
(٣) المرجع السابق بالمعنى.
(٤) زيادة من أ.
(٥) البغوي ٦ / ٢٤٤ و ٢٤٥.
(٦ و ٧) المرجع السابق.