وثانيها : هذه الآية.
ثالثها : في الحجرات وهي قوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) إلى قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) [الحجرات: ١٢] فالأول : كان المنع عقيب التسمية ، والثاني : عقيب الدعاء بالألقاب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل. فهذه المواضع الثلاثة دلت على أن الظن فيها مذموم أحدها : مدح ما لا يستحق المدح كاللّات والعزّى من العزة ، وثانيها : ذمّ من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عباد الرّحمن يسمّونهم تسمية الأنثى ، وثالثها : ذمّ من لم يعلم حاله ، وأما مدح من يعلم حاله فلم يقل فيه : لا يتبعون الظن بل الظن معتبر فيه والأخذ بظاهر حال العاقل واجب (١).
قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) يعني القرآن. وقيل : الإيمان ؛ أي اترك مجادلتهم فقد بلّغت وأتيت بما عليك.
قال ابن الخطيب : وأكثر المفسرين يقولون : كل ما في القرآن من قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ) منسوخ بآية القتال ، وهو باطل ؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في الأول كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم ، وقيل له : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم لمّا لم ينفع قال له ربه : أعرض عنهم ولا تقل لهم (٢) بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق وقاتلهم ، فالإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخا بها؟ (٣)
قوله : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) إشارة إلى إنكارهم الحشر كقوله تعالى عنهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩] وقوله : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٣٨] وذلك أنه إذا ترك النظر في آلاء الله لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه ، وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى في الدعاء فائدة.
واعلم أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان كالطبيب للقلوب ، فأتى على ترتيب الأطبّاء في أن المرض إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء القوي ، ثم إذا عجز (٤) عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكيّ كما قيل : «آخر الدّواء الكيّ» ، فالنبي ـ
__________________
(١) وانظر تفسير الإمام ٢٨ / ٣١٠ ، ٣١١.
(٢) كذا في النسختين وفي الرازي : ولا تقاتلهم.
(٣) المرجع السابق.
(٤) في الرازي : عجزوا. وفيه إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي.