فالجواب : أن النعمة كانت قد وصلت إليهم ، وكانوا متقلّبين في النّعم فلم يذكّرهم به ، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمرين جميعا فأخبرهم بها (١).
وقوله : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيص. وقيل : هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تعتمدون عليه؟
ومن قرأ بالتشديد فهو مفعول أي بحثوا عن المحيص (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟)(٢).
والمحيص كالمحيد (٣) غير أن المحيص معدل ومهرب عن الشدة بدليل قولهم : «وقعوا في حيص بيص» (٤) أي في شدة وضيق ، والمحيد معدل وإن كان بالاختيار ، فيقال : حاد عن الطّريق بطرا (٥). ولا يقال : حاص عن الأمر بطرا.
قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) ذلك إشارة إلى الإهلاك ، أو إلى إزلاف الجنة. و «الذكرى» مصدر أي تذكرة وعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ).
قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٦) ـ : أي عقل. قال الفراء : هذا جائز في العربية تقول : ما لك قلب ولا قلبك (٧) معك ، أي عقلك معك.
وقيل : له قلب حاضر مع الله (٨). وقيل : قلب واع ؛ وذلك لأن من لا يتذكر كأنّه لا قلب له ، ومنه قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] أي هم كالجماد ، وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) [المنافقون : ٤] أي لهم صور ، وليس لهم قلب ، ولا لسان للشّكر (٩).
__________________
(١) وانظر الرازي ٢٨ / ١٨١.
(٢) ذكر هذه الأوجه الإعرابية أبو عبد الله الرازي الإمام الفخر في مرجعه السابق.
(٣) معنى وفي اللفظ هو : مصدر ميمي أو اسم مفعول وكلاهما من الثلاثي أو اسم مكان أو زمان وهو مثلهما.
(٤) تنطق هكذا : حيص بيص ، وحيص بيص ، وحيص بيص ، وحاص باص أي في ضيق وشدة ، وقيل : في اختلاط من أمر مخرج لهم منه. ونصب «حيص بيص» على كلّ حال وإذا أفردوه أجروه وربما تركوا إجراءه. وقال الجوهريّ : وحيص بيص اسمان جعلا واحدا وبنيا على الفتح مثل جاري بيت بيت. وفي معناهما كلام آخر انظر اللسان إن أردت والصّحاح «حيص».
(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : نظرا والأصح النّسختان. وانظر هذا كله في الرازي ٢٨ / ١٨٢.
(٦) زيادة من (أ).
(٧) قال وهذا جائز في العربية أن تقول : ما لك قلب ، وما قلبك معك ، وأين ذهب قلبك؟ تريد العقل لكل ذلك. انظر معاني الفراء ٣ / ٨٠.
(٨) نقله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٣٩.
(٩) وقد ذكر هذين الرأيين الأخيرين الإمام الفخر في تفسيره الكبير ٢٨ / ٨٣.