ومر النبي صلىاللهعليهوسلم بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله عزوجل ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلا المجلسين على خير ، وأحدهما أفضل من صاحبه ، أمّا هؤلاء فيدعون الله ـ عزوجل ـ ويرغبون إليه ، وأمّا هؤلاء فيتعلّمون الفقه ويعلمّون الجاهل ، فهؤلاء أفضل ، وإنّما بعثت معلّما» ثم جلس فيهم (١).
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية.
قال ابن عباس في سبب النزول (٢) : إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية فكفّ كثير من الناس.
وقال الحسن : إن قوما من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلىاللهعليهوسلم يناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النّجوى ، فشق ذلك عليهم ، فأمرهم الله ـ تعالى ـ بالصّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه (٣).
وقال زيد بن أسلم : إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلىاللهعليهوسلم ويقولون : إنه أذن يسمع كلّ ما قيل له ، وكان لا يمنع أحدا مناجاته ، فكان ذلك يشقّ على المسلمين ؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الآية ، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى ؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة ، فخفف الله ـ تعالى ـ عنهم بما بعد الآية (٤).
قال ابن العربي (٥) : وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح (٦) ، فإن الله ـ تعالى ـ قال : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ثم نسخه مع أنه كونه خيرا وأطهر ، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح.
__________________
(١) أخرجه ابن ماجه ١ / ٨٣ ، المقدمة باب : فضل العلماء (٢٢٩) ، وقال صاحب الزوائد : إسناده ضعيف ، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ١ / ٣٦ ، والدارمي ١ / ٩٩.
(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن (١٧ / ١٩٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٢) ، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٩٥) ، عن زيد بن أسلم.
(٥) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٦٢.
(٦) لا نزاع في بناء الأحكام على المصالح التي قام الدليل الشرعي على رعايتها ، ومثال هذا حفظ العقل الذي دل على رعايته تحريم الخمر وإقامة الحد على شاربها ، فإذا عرض للمجتهد مطعوم لا يسمى خمرا ولكنه يفعل بالعقل ما تفعله الخمر لم يتردد في تحريمه أخذا بالدليل القائم على اعتداد الشارع بمصلحة حفظ العقل وبنائه بعض الأحكام على رعايتها ، وهذا هو أصل القياس في الشريعة ، فإنه ـ