وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه ، لأن الله سبحانه وتعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر ، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجع منه ببعيد ، وهذا كقوله تعالى : (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(١). حيث جعل العلم مدخلا في الإعادة وهذا جواب لما كانوا يقولون : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعذبهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون.
قوله تعالى : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي محفوظ من الشياطين ومن أن يدرس أو يتغيّر. وهو اللوح المحفوظ. وقيل : معناه حافظ لعدتهم وأسمائهم وأعمالهم. قال ابن الخطيب : وهذا هو الأصحّ ؛ لأن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [هود ٦٦] وقال : (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) [الشورى : ٦] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه : العلم عندي كما يكون في الكتاب ، فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ (٢).
قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا) هذا إضراب ثان ، قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق (٣). وقال أبو حيان : وكان هذا الإضراب الثاني بدلا من الأوّل (٤). قال شهاب الدين : وإطلاق مثل هذا في كتاب الله لا يجوز ألبتة. وقيل : قبل هذه الآية جملة مضرب عنها تقديرها : ما أجازوا النظر بل كذّبوا (٥). وما قاله الزمخشري أحسن.
فصل
في المضروب عنه وجهان :
أحدهما : أنه الشكّ تقديره : والقرآن المجيد إنّك لمنذر ، وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا.
والثاني : تقديره : لم يكذب المنذر بل كذبوا هم (٦).
وفي المراد بالحق وجوه :
الأول : البرهان القائم على صدق الرسول ـ (عليه الصلاة والسلام ـ) (٧).
__________________
(١) قاله الرازي في مرجعه السابق.
(٢) الرازي المرجع السابق وانظر البغوي ٦ / ٢٣٣ ولباب التأويل للخازن نفس الجزء والصفحة.
(٣) الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. وانظر كشافه ٤ / ٤.
(٤) قال : وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جوابا للقسم البحر ٨ / ١٢١.
(٥) ذكره أبو حيان في مرجعه السابق.
(٦) ذكر الرازي الوجه في تفسيره ٢٨ / ١٥٢ و ١٥٣.
(٧) زيادة من الأصل ما بين القوسين.