فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ) ولم يقل : «وأنّه هو خلق» كما قال : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى)؟
فالجواب : أن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنه بفعل الإنسان ، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاجّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فأكد ذلك بالفصل. وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أنه بفعل واحد من الناس ، فلم يؤكد بالفصل ، ألا ترى إلى قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) حيث كان الإغناء عندهم غير مسند إلى الله ، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨] وكذلك قال : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
واختلفوا في الذكر والأنثى هل هما اسمان وهما صفة؟ أو اسمان ليسا بصفة؟ فالمشهور عند أهل اللغة أنهما اسمان ليسا بصفة.
قال ابن الخطيب : والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات فالذكر كالحسن ، والأنثى كالحبلى والكبرى (١).
قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي تصبّ في الرّحم ؛ يقال : منى الرّجل وأمنى. قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح.
وقيل : تقدر ، يقال : منيت الشّيء إذا قدّرته (٢). وهذا أيضا تنبيه على كمال القدرة ، لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء يخلق الله منها أعضاء مختلفة ، وطباعا متباينة ، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ، ولهذا لم يقدر أحد على أن يدّعيه كما لم يقدر على أن يدّعي خلق السموات ، ولهذا قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٣) [لقمان : ٢٥].
قوله : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة. قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون المراد من قوله : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) هو نفخ الروح الإنسانية فيه كما قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٣ و ١٤] أي غير خلق النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاما. وبهذا الخلق الآخر وهو نفخ الروح تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات فكما قال هناك : (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ)
__________________
(١) وانظر في هذا كله تفسير العلّامة الإمام الفخر الرازي ١٥ / ٢٠ و ٢١.
(٢) البغوي والخازن ٦ / ٢٧٠.
(٣) انظر الرازي السابق