وقد تنازع أهل السنة والقدرية في الاستدلال بهذه الآية ، فأهل السنة يقولون : كلّ شيء مخلوق لله تعالى ، ودليلهم قراءة النصب ؛ لأنه لا يفسر في هذا التركيب إلا ما يصحّ أن يكون خبرا لو رفع الأول على الابتداء.
وقال القدريّة : القراءة برفع «كل» و «خلقناه» في موضع الصفة ل «كلّ» أي أمرنا أو شأننا كلّ شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار. وعلى حد ما في (١) هيئته وزمنه (وغير ذلك) (٢).
وقال بعض العلماء في القدر هنا وجوه :
أحدها : أنه المقدار في ذاته وفي صفاته.
الثاني : (أنه) التقدير لقوله : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات : ٢٣] وقال الشاعر :
٤٦١٤(٣) ـ .......... |
|
وقد قدر الرّحمن ما هو قادر (٤) |
أي ما هو مقدّر.
الثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، كقولك : كان بقضاء الله وقدره ، فقوله : (بقدر) على قراءة الناصب متعلق بالفعل الناصب (٥) ، وفي قراءة الرفع في محلّ رفع ، لأنه خبر ل «كلّ» و «كلّ» وخبرها في محل رفع خبر «لإنّ». وسيأتي قريبا أنه عكس هذه ؛ أعني في اختيار الرفع وهي (٦) قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ)(٧) [القمر : ٥٢] ، فإنه يختلف في رفعه ، قالوا : لأن نصبه يؤدي إلى فساد المعنى لأن الواقع خلافه ، وذلك أنك لو نصبته لكان التقدير : فعلوا كلّ شيء في الزّبر. وهو خلاف الواقع ، إذ في الزبر أشياء كثيرة جدا لم يفعلوها. وأما قراءة الرفع فتؤدي إلى أن كل شيء فعلوه هو ثابت في الزّبر. وهو المقصود فلذلك اتفق على رفعه.
وهذان الموضعان من نكت المسائل الغريبة التي اتّفق مجيئها في سورة واحدة ومكانين متقاربين ، ومما يدل على جلالة علم الإعراب وإفهامه المعاني الغامضة.
__________________
(١) في ب ماهيته وفي البحر : على حد ما في هيئته وزمنه وانظر البحر ٨ / ١٨٣.
(٢) زيادة لتجميل السياق وتوضيحه.
(٣) سقط سهوا عند الترقيم الرقم ٤٦١٣.
(٤) عجز بيت من الطويل نسبه صاحب اللسان إلى إياس بن مالك بن عبد الله المعنيّ صدره :
... كلا ثقلينا طامع بغنيمة
وجاء بالبيت ليبين أن القدر بمعنى التقدير. وانظر الرازي ١٥ / ٧٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٣ واللسان «قدر» ٣٥٤٨.
(٥) وهو «خلقناه».
(٦) في ب هو.
(٧) وانظر معنى القدر في الرازي ١٥ / ٧٤ والبحر ٨ / ١٨٣.