ويستمر فيضان النيل أربعين يوما في مصر وذلك ابتداء من السابع عشر من حزيران (يونية) ، وتستمر التحاريق أربعين يوما أيضا (٤٠) وقبل أن يصل إلى مصر يستغرق الفيضان كل شهر أيار (مايو) وقسما من حزيران (يونية) كي ينزل إلى مجرى النيل (٤١). وتوجد آراء مختلفة حول موضوع أصل النيل. فالبعض يقولون أنه يأتي من جبل يدعى جبل القمر. ويدّعي آخرون أنه ينبع في سهول مهجورة في حضيض هذا الجبل ، عن طريق بضعة ينابيع شديدة التباعد بعضها عن بعض. ويؤكد أنصار الرأي الأول أن النهر يهبط من الجبل مع عنفوان شديد حتى أنه ليدخل تحت الأرض ويخرج منها بعدئذ بواسطة عيون مختلفة. ولكن هذين الرأيين ليسا أكثر من افتراضين إذ لم ير أحد أبدا شيئا من ذلك ولا يزال من غير الممكن رؤية ذلك عيانا.
بيد أن تجار الحبشة الذين يزاولون التجارة في دنقلة يقولون أن النيل يزداد عرضا في الجنوب حتى إنه ليصبح بحيرة ، وحتى ليتعذر تماما معرفة معالم مجراه. ويتشعب في الجنوب كذلك إلى فروع لا تحصى تجري بين هذه القيعان الضحلة وتنتشر من الشرق إلى الغرب فتمنع الناس من تجاوز المجاري الأصلية للنهر.
ويؤكد الكثير من الأحباش الذين ينتجعون في هذه الأرجاء كالعرب ، أن بعضا منهم فقدوا جمالا في موسم اللقاح ، وأنهم ذهبوا للبحث عنها جنوبا على مسافة ألف ميل (٤٢) ولم يروا شيئا آخر من النيل سوى زمرة من بحيرات صغيرة ومن فروع كثيرة ، ووجدوا جبالا كبيرة جافة وخاوية. ويسرد نفس المؤرخ ، أي المسعودي ، أنه يعيش في هذه الجبال متوحشون يركضون كالوعول ويأكلون العشب ويعيشون في الصحاري كالحيوانات المفترسة. ولكن ربما كان في ذلك بعض الأكاذيب المشهورة ، من بين
__________________
(٤٠) يبدأ الفيضان في القاهرة فقط ، في ١٧ حزبران (يونية) كما أن نظام النيل يختلف عما يذكره لنا المؤلف ، كما رأينا ، ويدّعي أن هذا الواقع يعود إلى كثرة الأمطار في ايثيوبيا في بداية أيار (مايو). والحقيقة في شباط (فبراير) وفي آذار (مارس) تتضافر الأمطار وذوبان الثلوج في منطقة البحيرات الاستوائية على تشكيل كتل الماء التي تؤلف الفيضان ، والذي يستغرق بضعة أشهر ريثما يصل إلى مصر.
(٤١) بتاريخ ٢٦ نيسان (ابريل) يبدأ النيل الأزرق القادم من الحبشة فيضانه في الخرطوم ، وفي ١٩ أيار (مايو) يأتي النيل الأبيض القادم من البحيرات الكبرى الاستوائية ليضم موجته عند الخرطوم. وفي ١٧ أيار (مايو) يصل الفيضان إلى دنقلة ، وفي ٢٩ أيار (مايو) يصل إلى أسوان. ويستغرق الفيضان ٥٢ يوما كي يقطع مسافة ٢٧٥٩ كم التي تفصل الخرطوم عن القاهرة.
(٤٢) ١٦٠٠ كم.