وعين أسد الدين صلاح الدين قائدا عاما على الجيش المهيأ لمحاربة ملك القدس. وقدم إلى مصر مع خمسين الف فارس. ومع ان صلاح الدين كان لا يزال شابا ، فقد عرف عنه شدة إقدامه ، وعين اميرا لجمع عوائد مصر وإنفاقها. وبعد ان نظم جيوشه سار صلاح الدين ضد النصارى ، فأحرز عليهم نصرا خاطفا وطردهم على أثره من القدس ومن كل بلاد الشام. ولما عاد الى القاهرة عمل مشروعا لكي يكون ملكا عليها. فقتل زعماء حرس الخليفة ، وكانا من جنسيتين مختلفتين ، لانه كان هناك حرس من زنوج أثيوبيا وحرس من الصقالبة ، وكان زعيماهما يهيمنان على كل الدولة برمتها. ولما وجد الخليفة نفسه بدون حماية ، فكر في وضع صلاح الدين في السجن ، ولكن بمجرد ان علم صلاح الدين بذلك ، قضى على الخليفة وأرسل فورا خضوعه لخليفة بغداد الذي كان الخليفة الحقيقي ، لأن خليفة القاهرة كان شيعيا (١٢٩).
__________________
ـ الدراسات الدينية في دمشق. وكان الخليفة العاضد قد تخلى فعليا عن السلطة لزعيم المرتزقة. شاوار ، الذي كان الفرنجة يسمونه بالفعل سلطانا ، وكانت إدارة البلاد في يدي خصي نوبي ، مؤتمن الخلفاء ، وهو قائد الحرس الأسود. ولما علمت الحكومة المصرية بقدوم أسد الدين استنجدت بالملك الصليبي آموري الذي جاء شخصيا مع أمرائه الفرنجة للدفاع عن مصر ضد قوات أسد الدين شيركوه وحدثت معركة غير حاسمة في مصر العليا بتاريخ ٢٣ آذار (مارس) ١١٦٧ م ، كاد الملك آموري نفسه يسقط فيها أسيرا ، واضطر أسد الدين بعد ذلك الى العزوف عن محاولته ، ولكن عند تراجعه احتل الإسكندرية ، حيث ترك ابن أخيه صلاح الدين يوسف حاكما عليها. وجاء الملك آموري وقواته من الفرنجة لمحاصرتها فاضطر صلاح الدين للتسليم في ٤ آب (أغسطس) ١١٦٧ م. ولكن الملك الفرنجي الفارس ، وكان سنه اثنتين وثلاثين سنة ، عامل خصمه بتكريم ولطف وأطلق سراحه ، وكان لصلاح الدين من السن حينئذ ثلاثون سنة. وفي أعقاب هذه الحملة أصبحت مصر تحت ما يشبه الحماية الفرنجية ، وأقام مدير شرطة افرنجي في القاهرة كما أصبحت حراسة أبوابها منوطة بالفرنجة. وحينئذ تمكن الأمراء الفرنجة من إقناع الملك الفرنجي آموري الذي قرر محاولة فتح مصر. ولكن رد الفعل الإسلامي كان فوريا. ورغم المذهب الشيعي (الذي كان مذهب الخليفة الفاطمي حينئذ) فقد استنجد وجهاء مصر بأمير حلب نور الدين. فأرسل هذا قواته الى مصر بقيادة اسد الدين شيركوه ، الذي ظل ابن أخيه صلاح الدين يعاونه.
وقد كسب الملك الفرنجي آموري معركة بلبيس ووصل الى القاهرة بتاريخ ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٦٨ م ، ولكن لما وجد الفسطاط ملتهبة بالحرائق بشكل مفتعل ، وجد من الحيطة العودة الى فلسطين ، وتواجه الجيشان الإسلامي والصليبي بدون أن يشتبكا.
(١٢٩) يتطلب هذا العرض التوضيح التالي. لقد دخل أسد الدين شيركوه الى القاهرة في ٨ كانون الثاني ١١٦٨ م ، فشعر شاوار وهو صاحب السلطة الحقيقة حينئذ ، أنه خاسر لا محالة ، ففكر باعتقال أسد الدين وصلاح الدين وأهم ضباطهما خلال مأدبة ، ولكن المؤامرة اكتشفت. فقام صلاح الدين نفسه باعتقال شاوار ثم حصل على إذن من الخليفة وقطع رأسه في ١٨ كانون الثاني (يناير) ١١٦٩ م. وحينئذ منح العاضد ، الضعيف ، أسد الدين لقب ملك. ومات أسد الدين الهرم في ٢٣ آذار ١١٦٩ م وأصبح ابن أخيه صلاح الدين يتمتع بلقب ملك. ولما استدعى الخصي ، المؤتمن ، الملك الإفرنجي آموري ، سقطت الرسالة بتاريخ ٢٠ آب (أغسطس) ١١٦٩ بيد صلاح الدين فعمد الى قطع رأس المؤتمن وقتل كل الحرس الأسود. وقد احترم صلاح الدين سلطة الخليفة الفاطمي رغم التحريضات المستعجلة من طرف نور ـ