قال الله ـ جل ذكره ـ فيهم : ونزعنا ما في صدورهم من غلّ» (١).
والتأويل الثاني : أنّ المراد منه أن درجات أهل الجنّة متفاوتة بحسب الكمال والنّقصان ، فالله ـ تعالى ـ أزال الحسد عن قلوبهم حتّى إنّ صاحب الدّرجة النّازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة.
قال صاحب هذا التأويل (٢) : وهذا أولى من الوجه الأوّل ، حتّى يكون في مقابلة ما ذكره الله ـ تعالى ـ من تبرّؤ بعض أهل النّار من بعض ، ولعن بعضهم بعضا ، ليعلم أنّ حال أهل الجنّة في هذا المعنى مفارقة لحال أهل النّار ، فإن قيل : كيف يعقل أن يشاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجة العالية ، ويرى نفسه محروما عنها ، عاجزا عن تحصيلها ، ثم إنّه لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها؟ فإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضا أن يغيرهم الله ـ تعالى ـ ، ولا يخلق فيهم شهوة الأكل والشّرب والوقاع ويغنيهم عنها (٣)؟.
فالجواب : أنّ الكلّ ممكن ، والله تعالى قادر عليه ، إلّا أنّه تعالى وعد بإزالة الحقد والحسد عن القلوب ، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشّرب عن النّفوس (٤).
قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ).
في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّها حال من الضّمير في «صدورهم» ، قاله أبو البقاء (٥) وجعل العامل في هذه الحال معنى الإضافة.
والثاني : أنّها حال أيضا ، والعامل فيها «نزعنا» ، قاله الحوفيّ.
الثالث : أنّها استئناف إخبار عن صفة أحوالهم.
وردّ أبو حيّان الوجهين الأوّلين ؛ أمّا الأوّل فلأنّ معنى الإضافة لا يعمل إلّا إذا أمكن تجريد المضاف ، وإعماله فيما بعده رفعا أو نصبا.
وأما الثاني فلأن (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) ليس من صفة فاعل «نزعنا» ، ولا مفعوله وهما «نا» و «ما» فكيف ينتصب حالا عنهما؟ وهذا واضح.
قال شهاب الدّين (٦) : «قد تقدّم غير مرة أنّ الحال تأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا من المضاف إليه لمدرك آخر ، لا لما ذكره أبو البقاء من أنّ العامل هو معنى الإضافة ، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف ، وإن كانت الحال ليست منه ؛ لأنّهما لمّا كانا متضايفين ، وكانا مع ذلك شيئا واحدا ساغ ذلك».
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٦.
(٢) يقصد بذلك الزمخشري.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٦.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٦.
(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٤.
(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٧٢.