أحدها : أن وجه دلالة هذه المحدثات على وجود الصّانع هو حدوثها ، أو إمكانها ، أو مجموعها ، فأمّا وقوع ذلك الحدوث في ستة أيّام ، أو في يوم واحد فلا أثر له في ذلك ألبتّة.
الثاني : أنّ العقل يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز ، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في ستّة أيّام إلّا بإخبار مخبر صادق ، وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار ، فلو جعلنا هذه المقدّمة مقدّمة في إثبات الصّانع لزم الدّور(١).
الثالث : أنّ حدوث السموات والأرض دفعة واحدة أدلّ على كمال القدرة والعلم من حدوثها في ستة أيّام.
وإذا ثبتت هذه الوجوه الثلاثة فنقول : ما الفائدة في ذكر أنّه تعالى إنّما خلقها في ستّة أيّام في إثبات ذكر ما يدلّ على وجود الصّانع؟
الرابع : ما السّبب في أنّه اقتصر هاهنا على ذكر السّموات والأرض ، ولم يذكر خلق سائر الأشياء؟
الخامس : اليوم إنّما يمتاز عن اللّيلة بطلوع الشّمس وغروبها ، فقبل خلق السّموات والقمر كيف يعقل حصول الأيّام؟
السادس : أنّه تعالى قال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] ، وهو كالمناقض لقوله خلق السّموات والأرض.
السابع : أنّه تعالى خلق السّموات والأرض في مدة متراخية فما الحكمة في تقييدها بالأيام الستّة؟
والجواب على مذهب أهل السّنّة واضح ؛ لأنّه تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور ، وكلّ شيء صنعه ولا علّة لصنعه ، ثم نقول :
أمّا الجواب عن الأوّل أنّه تعالى ذكر في أوّل التّوراة أنّه خلق السّموات والأرض في ستّة أيّام ، والعرب كانوا يخالطون اليهود والظّاهر أنّهم سمعوا ذلك منهم ، فكأنّه سبحانه يقول : لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام ، فإنّ ربّكم هو الذي سمعتم من عقلاء النّاس أنّه هو الذي خلق السّموات والأرض على غاية عظمتها في ستّة أيّام (٢).
وعن الثالث : أن المقصود منه أنّه تعالى وإن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنّه جعل لكلّ شيء حدا محدودا ، ووقتا مقدرا ، فلا يدخله في الوجود إلّا على ذلك الوجه ، فهو ، وإن كان قادرا على إيصال الثّواب للمطيعين في الحال ، وعلى
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨١.
(٢) لم يذكر الجواب عن الثاني.