وأيضا قد ثبت في العقليّات أنّ الأجسام متماثلة ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيّن بالطّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر ، لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار ، فثبت بهذا البرهان العقليّ أنّ محرك الرّياح هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأيضا فقوله تعالى : «نشرا» أي منشّرة متفرقة ، فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة ، وجزء آخر يذهب يسرة ، وكذا سائر أجزاء الرّياح ، كلّ واحد منها يذهب إلى جانب آخر ، ولا شكّ أنّ طبيعة الهواء طبيعة واحدة ، ونسبة الأفلاك والأنجم والطّبائع إلى كلّ واحد من الأجزاء التي لا تتجزّأ من تلك الريح نسبة واحدة ، فاختصاص بعض أجزاء الرّيح بالذّهاب يمنة ، والجزء الآخر بالذّهاب يسرة يجب أن يكون ذلك بتخصيص الفاعل المختار (١).
قوله : «بين» : ظرف ل «يرسل» ، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك.
وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي بين يدي المطر الذي هو رحمته ، وحسن هذا المجاز أنّ اليدين تستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز ؛ يقال إن الفتن تحدث بين يدي السّاعة يريدون قبلها ، وذلك لأنّ يدي الإنسان متقدّمانه ، فكل ما يتقدّم شيئا يطلق عليه لفظ اليدين مجازا لهذه المشابهة ، كما تقول لمن أحسن إليك وتقدّم إحسانه : له عندي أياد ، ولما كانت الرّياح تتقدّم المطر عبّر عنه بهذا اللفظ.
فإن قيل : قد نجد المطر لا يتقدّمه رياح ، فنقول : ليس في الآية أنّ هذا التّقدّم حاصل في كلّ الأحوال ، وأيضا يجوز أن تتقدّمه هذه الرّياح وإن كنّا لا نعرفها.
قوله : «حتّى إذا أقلت» غاية لقوله : «يرسل» ، وأقلّت أي حملت من أقللت كذا أي : حملته بسهولة.
قال صاحب «الكشّاف» : واشتقاق الإقلال من القلّة ، فإن من يرفع شيئا فإنّه يرى ما يرفعه قليلا ، يقال : أقلّه أي حمله بسهولة ، والقلّة بضمّ القاف هو الظّرف المعروف وقلال هجر كذلك ؛ لأنّ البعير يقلّها أي يحملها.
وتقدّم تفسير (٢) «السّحاب» ، وأنّه يذكّر ويؤنّث ، ولذلك عاد الضّمير عليه مذكّرا في قوله : «سقناه». ولو حمل على المعنى كما حمل قوله «ثقالا» فجمع لقال : «سقناها».
و «لبلد» جعل الزّمخشريّ «اللّام» للعلّة ، أي : لأجل.
وقال أبو حيّان (٣) : فرق بين قولك : سقت له مالا ، وسقت لأجله مالا ، بأنّ سقت له أوصلت إليه ، وأبلغته إيّاه ، بخلاف سقته لأجله ، فإنّه لا يلزم منه إلّا إيصاله له ، فقد يسوق المال لغيري لأجلي ، وهو واضح.
وقيل : هذه اللام بمعنى «إلى» ، يقال : هديته للدّين ، أو إلى الدّين. وتقدّم الخلاف
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٤.
(٢) ينظر تفسير الآية (١٦٤) من سورة البقرة.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٢١.