سأصرفهم عن قبول آياتي والتّصديق بها (١) ، عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم الحقّ كقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥]. واحتجّ أهل السّنّة بهذه الآية على أنّه تعالى قد يمنع الإيمان.
وقالت المعتزلة : لا يمكن حمل الآية على ذلك لوجوه :
الأوّل : قال الجبّائيّ : لا يجوز أن يكون المراد منه أنّه تعالى يصرفهم عن الإيمان ؛ لأن قوله: «سأصرف» يتناول المستقبل ، وقد بيّن تعالى أنّهم كفروا وكذّبوا من قبل هذا الصرف ، لأنّه وصفهم بكونهم : (يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) وبأنّهم : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) فدلّت الآية على أنّ الكفر قد حصل لهم في الزّمان الماضي ؛ فدلّ على أن المراد من هذا الصرف ليس الكفر بالله.
الثاني : أن قوله «سأصرف عن آياتي» مذكور على وجه العقوبة على التّكبّر والكفر ، فلو كان المراد من هذا الصّرف هو كفرهم ، لكان معناه أنّه تعالى خلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر ، والعقوبة على فعل الكفر بمثل ذلك الفعل المعاقب عليه لا يجوز ؛ فثبت أنّ المراد من هذا الصّرف ليس هو الكفر.
الثالث : أنّه تعالى لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه ، فكيف يمكن أن يقول مع ذلك : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الانشقاق : ٢٠] (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) [الإسراء : ٩٤] فثبت أنّ حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن ؛ فوجب حملها على وجوه أخرى :
الأول : قال الكلبي وأبو مسلم الأصفهاني (٢) : إنّ هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى به من إهلاك أعدائه ومعنى صرفهم : أهلكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ، ولا يمنع المؤمنين من الإيمان بها ، وهو تشبيه بقوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرّسالة.
التّأويل الثّاني : قال الجبّائيّ : سأصرف المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العزّة والكرامة المعدّين للأنبياء ، والمؤمنين. وإنّما صرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم ، وذلك يجري مجرى العقوبة على كفرهم ، وتكبرهم على الله.
التّأويل الثالث : أنّ من الآيات ما لا يمكن الانتفاع بها إلّا بعد سبق الإيمان ، فإذا كفروا فقد صيّروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات ، فحينئذ يصرفهم الله عنها.
التأويل الرابع : أنّ الله عزوجل إذا علم من حال بعضهم أنّه إذا شاهد تلك الآيات
__________________
(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٢٠٠.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٤.