خلقتني من نار ، وخلقته من طين ، والنّار أفضل من الطّين والمخلوق من الأفضل أفضل.
أمّا بيان أنّ النّار أفضل من الطّين فلأنّ النّار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السّموات ، قوية التّأثير والفعل ، والأرض ليس لها إلّا القبول والانفعال ، والفعل أشرف من الانفعال ، وأيضا فالنّار مناسبة للحرارة الغريزيّة وهي مادّة الحياة. وأمّا الأرضيّة والبرد واليبس ، فهما يناسبان الموت والحياة أشرف من الموت ، وأيضا فالنضج متعلق بالحرارة ، وأيضا فسن النّموّ من النّبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين ، وأمّا وقت الشّيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية ، لا جرم كان هذا الوقت أردى أوقات عمر الإنسان.
وأمّا بيان أنّ المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر ؛ لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع.
وأمّا بيان أنّ الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون ، فإنّه قد تقرّر في العقول أنّ من أمر أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول ، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.
والجواب عنها أن نقول : هذه الشّبهة مركّبة من مقدّمات ثلاث : أوّلها أنّ النّار أفضل من التّراب ، وهذا قد تقدّم الكلام فيه (١).
قال محمّد بن جرير (٢) : ظنّ الخبيث أنّ النّار خير من الطّين ولم يعلم أنّ الفضل ما جعل الله له الفضل ، وقد فضّل الطّين على النّار.
وقالت الحكماء (٣) : للطّين فضل على النّار من وجوه :
منها : أن من جوهر الطّين الرّزانة والوقار والحلم والصّبر وهو الدّاعي لآدم عليهالسلام بعد السّعادة الّتي سبقت له إلى التّوبة والتّواضع والتّضرّع ، فأورثه المغفرة والاجتباء والتّوبة والهداية. ومن جوهر النّار الخفّة ، والطّيش ، والحدّة والارتفاع والاضطراب وهو الدّاعي لإبليس بعد الشّقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثه اللّعنة والشّقاوة ؛ ولأن الطّين سبب جمع الأشياء والنّار سبب تفرّقها ، [و] لأن التّراب سبب الحياة ؛ لأنّ حياة الأشجار ، والنّبات به ، والنّار سبب الهلاك ، ولأنّ التراب يكون منه وفيه أرزاق الحيوان ، وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معايشهم ومساكنهم والنّار لا يكون فيها شيء من ذلك ، وأيضا النّار مفتقرة إلى التّراب ، وليس التّراب مفتقر إليها ، فإنّ المحلّ الذي يكون مكونا من التّراب أو فيه فهي الفقيرة إلى التّراب ، وهو غنيّ عنها.
وأيضا إنّ النّار وإن حصل بها بعض المنفعة فالشّرّ كامن فيها ، لا يصدّها عنه إلا
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٤ / ٢٨.
(٢) ينظر : تفسير ابن جرير الطبري ٥ / ٤٤١.
(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١١١.