لأنّ من أتى بفعل ثم إنّ غيره وافقه في ذلك الفعل ، قيل : إنّه تابعه عليه ، ولو لم يأت به ، قيل : إنه خالفه ، وإن كان كذلك ، ودلّت الآية على وجوب المتابعة ؛ لزم أن يجب على الأمة متابعته.
بقي علينا أنّا لا تعرف هل أتى به ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قاصدا الوجوب أو النّدب؟.
فنقول : حال الدّواعي والعزائم غير معلوم ، وحال الإتيان بالفعل الظاهر معلوم ؛ فوجب أن لا يلتفت إلى حال العزائم والدّواعي ؛ لأنّها أمور مخفية عنّا ، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظّاهر ؛ لأنّه من الأمور التي يمكن رعايتها.
وقد تقدّم الكلام على لفظ لعلّ وأنّها للترجي وهو في حق الله تعالى محال ، فلا بد من تأويلها فيلتفت إليه.
قوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
لمّا وصف الرسول ، وذكر أنه يجب على الخلق متابعته ، ذكر أنّ في قوم موسى من اتّبع الحق وهدي إليه وبين أنهم جماعة ، لأن لفظ «الأمّة» ينبىء عن الكثرة.
واختلفوا فيهم.
فقيل : هم اليهود الذين آمنوا بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مثل عبد الله بن سلام ، وابن صوريا.
فإن قيل : إنهم كانوا قليلين في العدد ، ولفظ «الأمة» ينبىء عن الكثرة.
فالجواب : أنهم لمّا أخلصوا في الدّين جاز إطلاق لفظ «الأمّة» عليهم كقوله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠].
وقيل : إنّهم قوم بقوا على الدّين الحق الذي جاء به موسى ودعوا النّاس إليه وصانوه عن التّحريف والتّبديل في زمن تفرّق بني إسرائيل فيه وإحداثهم البدع.
وقال الكلبيّ والضحاك والربيع والسّديّ : لمّا كفر بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء ، تبرأ سبط من الاثني عشر ممّا صنعوا وسألوا الله أن ينقذهم منهم ، ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتّى خرجوا من وراء الصين بأقصى الشرق على نهري مجرى الرّمل يسمى نهر الأردن ، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه ، يمطرون باللّيل ويصبحون بالنّهار يزرعون ، لا يصل إليهم منا أحد وهم على الحق (١).
وذكر أنّ جبريل ذهب بالنّبيّ صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به إليهم وكلّمهم.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٨٩) عن ابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٥٠) عنه وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ.