مجرى الإغراء بالقبيح ، وذلك غير جائز على الله تعالى (١).
وأجاب الأوّلون بأنّ تعريف الله ـ تعالى ـ كونه من المنظرين إلى يوم القيامة لا يقتضي إغراء ؛ لأنّه تعالى كان يعلم أنّه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق ، سواء علم وقت موته ، أو لم يعلمه ، فلم يكن ذلك الإعلام موجبا إغراءه بالقبيح ، ومثاله أنّه تعالى عرّف أنبياءه أنّهم يموتون على الطّهارة والعصمة ، ولم يكن ذلك موجبا إغراءهم بالقبيح ؛ لأجل أنه تعالى علم منهم أنّه سواء عرّفهم تلك الحالة ، أم لم يعرّفهم تلك الحالة ، فإنّهم يموتون على الطّهارة والعصمة ، فلمّا كان حالهم لا يتفاوت بسبب هذا التّعريف ، فلا جرم لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيح فكذلك ههنا(٢).
قوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) في هذه «الباء» وجهان :
أحدهما : أنّها قسميّة وهو الظّاهر أي : بقدرتك عليّ ، ونفاذ سلطانك فيّ لأقعدنّ لهم على الطّريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنّة بأن أزيّن لهم الباطل ، وما يكسبهم المآثم. ويدلّ على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة «ص» : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ) [الآية : ٨٢].
والثاني : أنّها سببيّة ، وبه بدأ الزّمخشريّ (٣) قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) فبسبب إغوائك إيّاي ؛ لأقعدن لهم ، ثم قال : «والمعنى فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدنّ في إغوائهم حتّى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم».
فإن قلت : بم تعلّقت «الباء» ؛ فإنّ تعلقها ب «لأقعدنّ» يصدّ عنه لام القسم لا تقول : والله بزيد لأمرنّ؟
قلت : تعلّقت بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ [أي] : فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون «الباء» للقسم أي : فأقسم بإغوائك لأقعدنّ.
قال شهاب الدّين (٤) : وهذان الوجهان سبقه إليهما أبو بكر بن الأنباريّ ، وذكر عبارة قريبة من هذه العبارة.
وقال أبو حيان (٥) : «وما ذكره من أنّ اللّام تصدّ عن تعلّق الباء ب «لأقعدنّ» ليس حكما مجتمعا عليه ، بل في ذلك خلاف».
قال شهاب الدّين (٦) : أما الخلاف فنعم ، لكنّه خلاف ضعيف لا يعتد به أبو القاسم ، والشّيخ نفسه قد قال عند قوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] في قراءة من كسر اللّام في «لمن» : إنّ ذلك لا يجيزه الجمهور ، وسيأتي مبينّا إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣١.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣١.
(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٩١.
(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٤١
(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٧٥
(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٤١.