آية أخرى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٢] يدلّ على أنّه أضاف إغواء العباد إلى نفسه ، فالأول دلّ على مذهب أهل الجبر ، والثّاني يدلّ على مذهب [أهل](١) القدر ، وهذا يدلّ على أنه كان متحيرا في هذه المسألة. وقد يقال : إنّه كان معتقدا بأن الإغواء لا يحصل إلّا بالمغوي فجعل نفسه مغويا لغيره من الغاوين ثمّ زعم أنّ المغوي له هو الله ـ تعالى ـ قطعا للتّسلسل.
واختلفوا في تفسير هذه الكلمة ، فقال أهل السّنّة : الإغواء إيقاع الغيّ في القلب ، والغيّ هو الاعتقاد الباطل ، وذلك يدلّ على أنّه كان يعتقد أنّ الحقّ والباطل إنّما يقع في القلب من الله.
وأمّا المعتزلة فلهم ههنا مقامات (٢).
أحدها : أن يفسّروا الغيّ بما ذكرناه ، ويعتذروا عنه بوجوه.
منها : أن قالوا : هذا قول إبليس ، فهب (٣) أنّ إبليس اعتقد أنّ خالق الغيّ ، والجهل ، والكفر هو الله ، إلّا أنّ قول إبليس ليس بحجّة.
ومنها قالوا : إنّه تعالى لمّا أمره بالسّجود لآدم ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره ، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله ـ تعالى ـ لهذا المعنى ، وقد يقول القائل : لا تحملني على ضربك أي : لا تفعل ما أضربك عنده.
ومنها : أن قوله (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي : لعنتني ، والمعنى أنّك لمّا لعنتني بسبب آدم ؛ فأنا لأجل هذه العداوة ؛ ألقي الوساوس في قلوبهم.
المقام الثاني (٤) : أن يفسّروا الإغواء بالهلاك ، ومنه قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩] أي : هلاكا وويلا ، ومنه أيضا قولهم : غوى الفصيل يغوي غوى ؛ إذا أكثر من اللّبن حتى يفسد جوفه ويشارف الهلاك والعطب. وفسّروا قوله تعالى : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤] إن كان الله يريد أن يهلككم بعنادكم للحق. فهذا جميع الوجوه المذكورة(٥).
قال ابن الخطيب (٦) : ونحن لا نبالغ في بيان أنّ المراد من الإغواء في هذه الآية الإضلال ؛ لأن حاصله يرجع إلى قول إبليس ، وإنّه ليس بحجة إلّا أنّا نقيم البرهان اليقينيّ على أنّ المغوي لإبليس هو الله ـ تعالى ـ وذلك ؛ لأنّ الغاوي لا بدّ له من مغو ، والمغوي له إمّا أن يكون نفسه ، أو مخلوقا آخر ، أو الله ـ تعالى ـ والأوّل باطل ؛ لأن
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣١.
(٣) في أ : فثبت.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٢.
(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٢.
(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٢.