أمره الله بالسكوت عن مقابلته فقال : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ثمّ أمره الله تعالى بما يجري مجرى العلاج بهذا المرض إن حدث فقال : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) وهذا الخطاب وإن كان للرّسول إلّا أنه عام لجميع المكلفين. وقد تقدّم الكلام في الاستعاذة ؛ وقوله : (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يدلّ على أنّ الاستعاذة باللّسان لا تفيد إلّا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة ، فكأنّه تعالى يقول : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك ، فإني سميع ، واستحضر معنى الاستعاذة بقلبك ، وعقلك فإني عليم بما في ضميرك.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) الآية.
بيّن تعالى في هذه الآية أنّ حال المتّقين يزيد على حال الرسول في هذا الباب ؛ لأنّ الرسول لا يحصل له من الشّيطان إلّا النزغ الذي هو كالابتداء في الوسوسة ، وجوز على المتقين ما يزيد عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطان.
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو (١) ، والكسائيّ : طيف ، والباقون طائف بزنة فاعل.
فأما طيف ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه مصدر من : طاف يطيف ك : باع يبيع وأنشد أبو عبيدة : [الكامل]
٢٦٦٠ ـ أنّى ألمّ بك الخيال يطيف |
|
ومطافه لك ذكرة وشغوف (٢) |
والثاني : أنّه مخفف من فيعل والأصل : طيّف بتشديد الياء فحذف عين الكلمة ، كقولهم في : ميّت ميت ، وفي : ليّن لين ، وفي : هيّن هين.
ثم «طيّف» الذي هو الأصل يحتمل أن يكون من : طاف يطيف ، أو من : طاف يطوف والأصل : طيوف فقلب وأدغم.
وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءة سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء.
والثالث : أنّ أصله طوف من طاف يطوف ، فقلبت الواو ياء.
قال أبو البقاء قلبت الواو ياء وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيد وهو بعيد.
قال شهاب الدين (٣) : وقد قالوا أيضا في : حول حيل ، ولكن هذا من الشّذوذ بحيث لا يقاس عليه.
وقوله : وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضيا لمنع قلبها ياء ، بل كان ينبغي أن يقال :
__________________
(١) ينظر : السبعة ٣٠١ ، والحجة ٤ / ١٢٠ ، وحجة القراءات ٣٠٥ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٧ ، وإتحاف ٢ / ٧٣.
(٢) البيت لكعب بن زهير. ينظر : ديوانه (٨٤) والطبري ١٣ / ٣٣٥ ، واللسان «ذكر» والكشاف ٢ / ١٣٩ ، وشواهد الكشاف ٤ / ١٩٠ والبحر ٤ / ٤٤٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٠٨.
(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٨٨.