فأنزل الله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) الآية ، أي : إن تستفتحوا فقد جاءكم القضاء (١).
وقال أبيّ بن كعب : هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال الله للمسلمين : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أي تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر (٢). روى قيس عن خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تدعو الله لنا ، ألا تستنصر لنا ، فجلس محمرّ الوجه ، فقال لنا : «لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثمّ يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه ثمّ يجعل نصفين ما يصرفه عن دينه ، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصرفه عن دينه ، والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ، ولكنّكم تستعجلون» (٣).
قال القاضي : وهذا القول أولى ؛ لأن قوله «فقد جاءكم الفتح» لا يليق إلا بالمؤمنين اللهم إلّا أن يحمل الفتح على الحكم والقضاء ، فيمكن أن يراد به الكفار.
قوله : (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
فإن قلنا : إن ذلك الخطاب للكفار ، كان المعنى وإن تنتهوا عن قتال الرّسول وعداوته ؛ فهو خير لكم في الدّين بالخلاص من العقاب ، وفي الدّنيا بالخلاص من القتل والأسر والنّهب.
(وَإِنْ تَعُودُوا) إلى القتال : «نعد» أي : إلى تسليطه عليكم : (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر.
وإن قلنا ذلك خطاب للمؤمنين كان المعنى : إن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسرى ، فقد كان وقع بينهم نزاع يوم بدر في هذه الأشياء حتى عاتبهم الله بقوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) [الأنفال : ٦٨].
فقال تعالى (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن مثله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) أنتم إلى تلك المنازعات «نعد» إلى ترك نصرتكم ؛ لأن الوعد بنصركم مشروط بشرط استمراركم على الطّاعة ، وترك المخالطة ثمّ لا تنفعكم الفئة والكثرة ، فإنّ الله لا يكون إلّا مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب.
قوله : (وَلَنْ تُغْنِيَ) قرأ الجمهور بالتّاء من فوق ، لتأنيث الفئة.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠٥) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٣٩).
وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(٢) انظر تفسير البغوي (٢ / ٢٣٩).
(٣) أخرجه البخاري (٧ / ٢٠٢) كتاب مناقب الأنصار : باب ما لقي النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه من المشركين بمكة حديث (٣٨٥٢) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٩٥) وفي «تفسيره» (٢ / ٢٣٩).