قال الزجاج : «أسرى» جمع ، و «أسارى» جمع الجمع. والإثخان : قال الواحديّ : «الإثخان» في كلّ شيء : عبارة عن قوّته وشدّته.
يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنته الجراح.
فقوله : (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي : حتى يقوى ويشتد ويغلب ويقهر.
قال أكثر المفسرين : المراد منه : أن يبالغ في قتل أعدائه ، قالوا : وإنّما جعلنا اللّفظ يدل عليه ؛ لأنّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل ؛ قال الشّاعر :
٢٧٤٠ ـ لا يسلم الشّرف الرّفيع من الأذى |
|
حتّى يراق على جوانبه الدّم (١) |
وكثرة القتل توجب قوة الرهب وشدة المهابة ، وكلمة «حتّى» لانتهاء الغاية ، فقوله (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) يدلّ على أنّ بعد حصول الإثخان في الأرض فله أن يقدم على الأسارى.
وقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) المراد منه : الفداء ، وإنّما سمى منافع الدنيا عرضا ؛ لأنّه لا ثبات له ولا دوام ، فكأنه يعرض ثم يزول ، ولذلك سمّى المتكلمون الأعراض أعراضا ، لأنها لا ثبات لها كثبات الأجسام ؛ لأنها تطرأ على الأجسام ، وتزول عنها والأجسام باقية.
وقوله : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : أنه تعالى لا يريد ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول ، وإنّما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الدائمة الباقية المصونة عن التبدل والزوال.
ثم قال : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم ؛ لأنّ الله عزيز لا يقهر ولا يغلب ، حكيم في تدبير مصالح العالم.
قال ابن عبّاس : «هذا الحكم إنّما كان يوم بدر ؛ لأنّ المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)(٢) [محمد : ٤].
قال ابن الخطيب : «هذا الكلام يوهم أنّ قوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنّ كلتا الآيتين متوافقتان ، فإنهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء».
فصل
احتج الجبائيّ والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول : كلّ ما يكون من العبد
__________________
(١) البيت للمتنبي ينظر : ديوانه بشرح العكبري ٤ / ١٢٥ وتفسير الرازي ١٥ / ٢٠١.
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٦٢).