يهو ما قلت ، فلمّا كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان ، قلت : يا رسول الله ، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أبكي للّذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجّرة». شجرة قريبة من النبي صلىاللهعليهوسلم وأنزل الله عزوجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) وأحلّ الله الغنيمة لهم (١).
وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، والأوقية : أربعون درهما.
قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
قال ابن عباس : كانت الغنائم حراما على الأنبياء ؛ فكانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للقربان فكانت تنزل نار من السّماء فتأكله ، فلمّا كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم ، وأخذ الفداء ، فأنزل الله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ)(٢).
يعني : لو لا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنّه تحلّ لكم الغنائم لمسّكم العذاب.
وهذا مشكل ؛ لأنّ تحليل الغنائم والفداء ، هل كان حاصلا في ذلك الوقت ، أو ما كان حاصلا فيه؟ فإن كان ذلك التّحليل والإذن حاصلا في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم ؛ لأنّ ما كان مأذونا فيه من قبل الشرع لم يحصل العقاب على فعله.
وإن قلنا : إنّ الإذن ما كان حاصلا في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراما في ذلك الوقت ، أقصى ما في الباب أنّه سيحكم بحله بعد ذلك ، إلّا أنّ هذا لا يقدح في كونه حراما في ذلك الوقت.
فإن قالوا : إنّ كونه بحيث يصير بعد ذلك حلالا ، يوجب تخفيف العقاب.
قلنا : فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه ، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب.
قال ابن العربيّ : «في هذه الآية دليل على أنّ العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما ممّا هو في علم الله حلال له لا عقوبة عليه ، كالصّائم إذا قال : هذا يوم نوبي فأفطر الآن ، وتقول المرأة : هذا يوم حيضتي فأفطر ، ففعلا ذلك ، وكان النوب والحيض الموجبان للفطر ، فمشهور المذهب أن فيه الكفارة ، وهو قول الشافعيّ.
وقال أبو حنيفة : لا كفارة عليه. وجه الأوّل أنّ طريق الإباحة لا يثبت عذرا غير عقوبة التّحريم عند الهتك ، كما لو وطىء امرأة ثمّ نكحها.
__________________
(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٣٨٣ ـ ١٣٨٥) كتاب الجهاد والسير : باب الإمداد بالملائكة.
(٢) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٦٢).