فإن قيل : فأي معنى لهذا التكرار. قيل : المهاجرون كانوا على طبقات ، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى ، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ، وبعضهم أهل الهجرة الثانية ، وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكّة ، وكان بعضهم ذا هجرتين ، هجرة الحبشة ، والهجرة إلى المدينة ، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ومن الثانية الهجرة الثانية.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ).
هؤلاء هم القسم الرابع من مؤمني زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة ، إلّا أنهم بعد ذلك هاجروا إليه وجاهدوا معه.
واختلفوا في قوله «من بعد» فقال الواحدي ، عن ابن عبّاس «بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية» (١).
وقيل : بعد نزول هذه الآية ، وقيل : بعد يوم بدر ، والأصحّ أنّ المراد : والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى ، وهؤلاء هم التابعون بإحسان ، كما قال : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) [التوبة : ١٠٠] والصحيح : أنّ الهجرة انقطعت بفتح مكّة ، لأنّ مكة صارت بلد الإسلام.
وقال الحسن : «الهجرة غير منقطعة أبدا» (٢). وأما قوله عليه الصلاة والسلام «لا هجرة بعد الفتح» (٣) فالمراد الهجرة المخصوصة ، فإنّها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام ، أما لو اتفق في بعض الأزمان كون المؤمنين في بلد ، وهم قليلون ، وللكافرين معهم شوكة ، وإن هاجر المسلمون من تلك البلدة إلى بلد آخر ضعفت شوكة الكفار فهاهنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن ؛ لأنّ العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة قد حصلت فيهم.
قوله (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي : معكم ، يريد : أنتم منهم وهو منكم.
ثم قال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).
قالوا : المراد بالولاية ولاية الميراث ، قالوا هذه الآية ناسخة ؛ لأنّه تعالى بيّن أنّ الإرث كان بسبب الهجرة والنصرة ، والآن بعد نسخ ذلك فلا يحصل الإرث إلّا بسبب القرابة.
__________________
(١) ذكره الواحدي في «الوسيط» (٢ / ٤٧٤) ، البغوي (٢ / ٢٦٤) والقرطبي (٨ / ٣٨) ، وأبو حيان في البحر المحيط ٤ / ٥٢٣) ، والرازي ١٥ / ١٦٩.
(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٥ / ١٦٩).
(٣) أخرجه البخاري رقم (١٨٣٤) ومسلم (١٣٥٣) والترمذي (١٦٣٨) والنسائي (٧ / ١٤٥ ـ ١٤٦) وأبو داود (٢٤٦٣) وابن الجارود (١٠٣٠) وعبد الرزاق (٩٧١١ ، ٩٧١٣) من حديث ابن عباس.
وأخرجه مسلم (٣ / ٤٨٨) كتاب الإمارة : باب بيان معنى لا هجرة بعد الفتح حديث (٨٦ / ١٤٦٨) من حديث عائشة.
وأخرجه أحمد (٣ / ٤٠١ ، ٦ / ٤٦٥ ـ ٤٦٦) والنسائي (٧ / ١٤٥ ـ ١٤٦) من حديث صفوان بن أمية.
وأخرجه البخاري رقم (٣٠٧٨ ، ٣٠٧٩) من حديث مجاشع بن مسعود وأخرجه الطيالسي (١٩٨٩) وأحمد (٣ / ٢٢ ـ ٥ / ١٨٧) والطبراني في «الكبير» (٤٤٤٤ ، ٤٧٨٦) والحاكم (٢ / ٢٥٧) والبيهقي في دلائل النبوة (٥ / ١٠٩) من حديث أبي سعيد الخدري.