«تعودون» و «فريقا» الثاني نصب بإضمار فعل يفسره «حقّ عليهم الضّلالة» كما تقدّم تحقيقه في كل منهما.
وهذه الأوجه كلها ذكرها ابن الأنباري ، فإنّه قال كلاما حسنا ، قال ـ رحمهالله ـ : «انتصب فريقا وفريقا على الحال من الضّمير الذي في «تعودون» ، يريد : تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين ، بعضكم أشقياء وبعضكم سعداء ، فاتصل «فريق» وهو نكرة بالضّمير الذي في «تعودون» وهو معرفة فقطع عن لفظه ، وعطف الثاني عليه».
قال : «ويجوز أن يكون الأوّل منصوبا على الحال من الضّمير ، والثاني منصوب ب «حقّ عليهم الضّلالة» ؛ لأنّه بمعنى أضلّهم ، كما يقول القائل «عبد الله أكرمته ، وزيدا أحسنت إليه» فينتصب زيدا ب «أحسنت إليه» بمعنى نفعته ؛ وأنشد : [الوافر]
٢٤٥٣ ـ أثعلبة الفوارس أم رياحا |
|
عدلت بهم طهيّة والخشابا (١) |
نصب ثعلبة ب «عدلت بهم طهية» ؛ لأنه بمعنى أهنتهم أي : عدلت بهم من هو دونهم ، وأنشد أيضا قوله : [الكامل]
٢٤٥٤ ـ يا ليت ضيفكم الزّبير وجاركم |
|
إيّاي لبّس حبله بحبالي (٢) |
فنصب «إيّاي» بقوله : لبّس حبله بحبالي ، إذ كان معناه خالطني وقصدني.
قال شهاب الدّين : يريد بذلك أنّه منصوب بفعل مقدر من معنى الثاني لا من لفظه ، هذا وجه التّنظير.
وإلى كون «فريقا» منصوبا ب «هدى» و «فريقا» منصوبا ب «حقّ» ذهب الفراء (٣) ، وجعله نظير قوله تعالى : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الإنسان : ٣١].
قوله : «إنّهم اتّخذوا» جار مجرى التّعليل ، وإن كان استئنافا لفظا ، ويدلّ على ذلك قراءة عيسى بن عمر ، والعبّاس بن الفضل ، وسهل بن شعيب «أنّهم» بفتح الهمزة ، وهي نص في العلّيّة أي : حقّت عليهم الضلالة لاتّخاذهم الشياطين أولياء ، ولم يسند الإضلال إلى ذاته المقدّسة ، وإن كان هو الفاعل لها تحسينا للفظ وتعليما لعباده الأدب ، وعليه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) [النحل : ٩].
فإن قيل : كيف يستقيم هذا التّعليل مع قولكم بأنّ الهدى والضّلال إنما حصلا بخلق الله ابتداء؟ فالجواب : أنّ مجموع القدرة والدّاعي يوجب الفعل والدّاعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هو أنّهم اتخذوا الشّياطين أولياء.
__________________
(١) تقدم.
(٢) ذكره السمين الحلبي في الدر المصون ٣ / ٢٥٩.
(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٦.