بالكثير من الذهب والأقوات (٨٣). فانطلق المولى الأمنين إذن وقاد جيشه مخترقا الصحراء التي تفصل بلاد البربر عن مصر. وقبل ان يصل جوهر الى الاسكندرية ، كان والي مصر قد انسحب الى بغداد حيث التجأ الى الخليفة المطيع لله (٨٤).
وهكذا استولى جوهر على كل مصر وكل بلاد الشام في وقت قصير ولم يلاق سوى مقاومة ضئيلة (٨٥). ولكن جوهر لم يكن مطمئن البال ، فقد خشى أن يباغته خليفة بغداد مع كل جيوش آسيا ، وأن يقوم بهجوم معاكس شديد يؤدى الى فقدان وسائله الدفاعية وابادة جيوشه القادمة من بلاد البربر. ولهذا قرر بناء قلعة تتمكن فيها جيوشه من اللجوء اليها عند الاقتضاء لمقاومة الهجوم المعادي (٨٦) ، فبنى مدينة أحاطها بسور وظل فيها مقيما ، مع جزء من جيشه لحمايتها ، اي مع أولئك الذين كان يثق بهم كل الثقة. وأطلق على هذه المدينة اسم «القاهرة» (٨٧) أي «الغالبة» وتسمى عادة في أوروبا «لوكير» LeCaire (٨٨).
وهكذا أصبحت القاهرة تتوسع يوما فيوما بزيادة عدد أحيائها ، ومساكنها ، سواء
__________________
(٨٣) لقد كان الاستيلاء على المشرق دوما هدف الخلافة الفاطمية ، فالخليفة الأول في القيروان ، المهدى عبيد الله ، والذي نودي به في شهر كانون الأول (ديسمبر) ٩٠٩ م ، أرسل في مطلع شتاء عام ٩١٣ ـ ٩١٤ م ، ولده أبا القاسم محمد القايم على رأس حملة ضد مصر وكادت الحملة تنجح ، وأعقب ذلك بحملة ثانية في شتاء ٩١٨ ـ ٩١٩ م وانتهت بكارثة حقيقية. أما هذه الحملة الثالثة فقد جهزت بمهارة مع أبهة كبيرة في الوسائل السياسية والعسكرية ، وسار جيش جوهر الصقلي بتاريخ ٥ شباط (فبراير) ٩٦٩ م.
(٨٤) لقد كانت السلطة في مصر حينذاك في يد الامراء المتوارثين من الاسرة الإخشيدية. ولما كان الأمير الحاكم ولدا عمره اثنتا عشرة سنة ، هو أحمد بن على ، فقد كانت مقاليد السلطة بيد الشخصيات الكبيرة ، التي انحاز العديد منهم للدعوة الفاطمية. أضف الى ذلك أن البلاد كانت تتعرض لأزمة اقتصادية شديدة الخطورة. ولا نعلم على وجه اليقين ما اذا كان الامير أحمد قد التجأ لجوار الخليفة العباسي في بغداد الفضل المطيع لله.
(٨٥) لم تحدث أية مقاومة في مصر وأصبحت الخطبة تلقى في الفسطاط باسم الخليفة الفاطمي أبي تميم معدّ المعز بتاريخ الجمعة ٩ تموز (يوليه) ٩٦٩. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) استولت تجريده بربرية على فلسطين ودمشق.
(٨٦) لم يكن خليفة بغداد العباسي مخيفا ، ولكن مصر كانت مهددة من قبل الفوضويين الخطرين في جزيرة العرب وهم القرامطة. والواقع كان جوهر قد حاول بالفعل حماية الفسطاط من القرامطة.
(٨٧) القاهرة ومعناها الحرفي «الغالبة» ، ولكن الرويات تذكر ان هذا الاسم جاء من اسم كوكب المريخ ، أى القاهر ، وهو برج اليوم الذي شرع فيه ببناء السور ، إذ كان المريخ يمر في سمت خط طول المدينة ، وكان للتنجيم دور كبير من حيث الأهمية في ذلك العصر. إذن يكون معنى القاهرة «المريخية».
(٨٨) كان يطلق على «الفسطاط» التي كانت عامصة للبلاد اسم «مصر» وهو اسم القطر كله ، وأخذت القاهرة بدورها هذا الاسم «مصر» واحتفظت به في حين أصبحت الفسطاط تدعى «مصر القديمة» التي نسميها خطأ «القاهرة القديمة».