خطاب مع أقوام معيّنين ، فلم يلزم أن يكون كلّ أهل الجنّة كذلك.
والجواب عن الثّاني : أنّا لا نسلّم أنّه تعالى أجلسهم على تلك الأماكن العالية على سبيل التّخصيص بمزيد التّشريف وإنّما أجلسهم عليها ؛ لأنّها كالمرتبة المتوسّطة بين الجنّة والنّار وهل النزاع إلّا في ذلك؟!.
الوجه الثاني : أنّهم أقوام خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فحبسوا بين الجنّة (١) والنّار ، وهذا داخل في القول الذي قبله ؛ لأنّ معصيتهم ساوت طاعتهم بالجهاد.
الثالث : قال عبد الله بن الحارث (٢) : «إنّهم مساكين أهل الجنّة».
الرابع : قيل : إنّهم الفسّاق من أهل الصّلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم في الأعراف (٣).
وأمّا القول الثّاني بأن الأعراف عبارة عن الرّجال الذين يعرفون أهل الجنّة والنّار ، فهذا قول غير بعيد ؛ لأنّ هؤلاء الأقوام لا بدّ لهم من مكان عال ، يشرفون منه على أهل الجنّة وأهل النّار(٤).
قوله : «يعرفون» في محلّ رفع نعتا ل «رجال» ، و «كلّا» أي : كل فريق من أصحاب الجنّة ، وأصحاب النّار.
قوله : «بسيماهم» قال ابن عبّاس : «إنّ سيما الرجل المسلم من أهل الجنّة بياض وجهه(٥). قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] [وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة وكون كل واحد أغر محجلا من آثار الوضوء وعلامة الكفار سواد وجوههم](٦). وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة ، وكون عيونهم زرقا» (٧).
وقيل : إنّ أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطّاعة عليهم ، ويعرفون الكافرين في الدّنيا أيضا بظهور علامات الكفر والفسق عليهم ، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدّنيا ، وهذا هو المختار ؛ لأنّهم لمّا شاهدوا أهل الجنّة [في الجنة] وأهل النّار في النّار فأيّ حاجة إلى أن يستدلّ على كونهم من أهل الجنّة بهذه العلامات؟ لأنّ هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحسّ ، وذلك باطل.
والآية تدلّ على أنّ أصحاب الأعراف مختصّون بهذه المعرفة فلو حملناه على هذا
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٣.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٣.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٤.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٤.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٠٢) عن ابن عباس.
(٦) سقط من ب.
(٧) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٧٤.