الثاني : أنّها في موضع نصب على الاشتغال بإضمار فعل يفسّره ما بعده ، ويقدّر الفعل متأخّرا عن «كم» ؛ لأن لها صدر الكلام ، والتّقدير : وكم من قرية أهلكناها [أهلكناها] ، وإنّما كان لها صدر الكلام لوجهين :
أحدهما : مضارعتها ل «كم» الاستفهامية.
والثاني : أنّها نقيضة «ربّ» ؛ لأنّها للتكثير و «ربّ» للتّقليل فحمل النقيض على نقيضه كما يحملون النظير على نظيره ، ولا بد من حذف مضاف في الكلام لقوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فاضطررنا إلى تقدير محذوف ؛ لأن البأس لا يليق بالأهل ، ولقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فعاد الضمير إلى أهل القرية ، وأيضا فلأن التّحذير لا يقع إلّا للمكلّفين ، وأيضا والقائلة لا تليق إلّا بالأهل.
ثم منهم من قدّره قبل قرية أي : كم من أهل قرية ، ومنهم من قدّره قبل «ها» في أهلكناها أي : أهلكنا أهلها ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن التّقادير إنّما تكون لأجل الحاجة ، والحاجة لا تدعو إلى تقدير هذا المضاف في هذين الموضعين المذكورين ؛ لأن إهلاك القرية يمكن أن يقع عليها نفسها ، فإن القرى قد تهلك بالخسف والهدم والحريق والغرق ونحوه ، وإنما يحتاج إلى ذلك عند قوله : «فجاءها» لأجل عود الضّمير من قوله : «هم قائلون» عليه ، فيقدّر : وكم من قرية أهلكناها فجاء أهلها بأسنا.
قال الزّمخشريّ (١) : فإن قلت : هل يقدّر المضاف الذي هو الأهل قبل القرية ، أو قبل الضّمير في «أهلكناها».
قلت : إنّما يقدّر المضاف للحاجة ، ولا حاجة فإن القرية تهلك ، كما يهلك أهلها وإنّما قدّرناه قبل الضمير في «فجاءها» لقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) وظاهر الآية : أنّ مجيء البأس بعد الإهلاك وعقيبه ؛ لأنّ الفاء تعطي ذلك لكن الواقع إنما هو مجيء البأس ، وبعده يقع الإهلاك.
فمن النّحاة من قال : الفاء تأتي بمعنى «الواو» فلا ترتب ، وجعل من ذلك هذه الآية ، وهو ضعيف ، والجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين :
أحدهما : أنّه على حذف الإرادة أي : أردنا إهلاكها كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] ، (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النحل : ٩٨] ، «إذا دخل أحدكم الخلاء فليسم [الله]» (٢) ، وقيل : حكمنا بهلاكها.
الثاني : أنّ معنى «أهلكناها» أي : خذلناهم ولم نوفقهم فنشأ عن ذلك هلاكهم ، فعبر بالمسبّب عن سببه وهو باب واسع. وثمّ أجوبة ضعيفة ؛ منها : أنّ الفاء هاهنا تفسيرية نحو : «توضّأ فغسل وجهه ثم يديه» فليست للتعقيب ومنها أنّها للتّرتيب في القول فقط كما
__________________
(١) ينظر : الكشاف للزمخشري ٢ / ٨٧.
(٢) سقط من أ.