أخبر عن قرى كثيرة أنّها أهلكها [ثم] قال : فكان من أمرها مجيء البأس ومنها ما قاله الفرّاء (١) ، وهو : أن الإهلاك هو مجيء البأس ، ومجيء البأس هو الإهلاك ، فلما كانا متلازمين لم يبال بأيّهما قدّمت في الرتبة ، كقولك : «شتمني فأساء» ، وأساء فشتمني ، فالإساءة والشّتم شيء واحد ، فهذه ستّة أقوال.
واعلم أنّه إذا حذف مضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه جاز لك اعتباران :
أحدهما : الالتفات إلى ذلك المحذوف.
والثاني ـ وهو الأكثر ـ : عدم الالتفات إليه ، وقد جمع الأمران هنا ، فإنّه لم يراع المحذوف في قوله : «أهلكناها فجاءها» وراعاه في قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ، هذا إذا قدّرنا الحذف قبل «قرية» ، أمّا إذا قدّرنا الحذف قبل ضمير «فجاءها» فإنّه لم يراع إلّا المحذوف فقط وهو غير الأكثر.
قوله : «بياتا» فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : [أنّه] منصوب على الحال وهو في الأصل مصدر ، يقال : بات يبيت بيتا وبيتة وبياتا وبيتوتة.
قال اللّيث : «البيتوتة» : «دخولك في اللّيل» فقوله : «بياتا» أي : بائتين وجوّزوا أن يكون مفعولا له ، وأن يكون في حكم الظّرف.
وقال الواحديّ : قوله : «بياتا» أي : ليلا وظاهر هذه العبارة أن تكون ظرفا ، لو لا أن يقال : أراد تفسير المعنى.
قال الفرّاء (٢) : يقال : بات الرّجل يبيت بيتا ، وربّما قالوا : بياتا ، وقالوا : سمّي البيت بيتا ؛ لأنّه يبات فيه.
قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) هذه الجملة في محلّ نصب نسقا على الحال ، و «أو» هنا للتّنويع لا لشيء آخر كأنّه قيل : آتاه بأسنا تارة ليلا كقوم لوط ، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب. وهل يحتاج إلى تقدير واو حال قبل هذه الجملة أم لا؟ خلاف بين النّحويّين.
قال الزمخشريّ (٣) : «فإن قلت : لا يقال : جاء زيد هو فارس» بغير واو فما بال قوله تعالى (أَوْ هُمْ قائِلُونَ)؟
قلت : قدّر بعض النّحويين الواو محذوفة ، وردّه الزّجّاج (٤) وقال : لو قلت : جاءني زيد راجلا ، أو هو فارس ، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى «واو» ؛ لأن الذّكر قد عاد على الأوّل. والصّحيح أنّها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا ؛ لاجتماع حرفي
__________________
(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧١.
(٢) ينظر : الرازي ١٤ / ١٨.
(٣) ينظر : الكشاف للزمخشري ٢ / ٨٧.
(٤) ينظر : الزجاج ٢ / ٣٤٩.