كون الذّات الواحدة متحرّكة ساكنة معا ؛ لأنّ أقصى ما في الباب أنّه بسبب السّكون بقي هاهنا وبسبب الحركة حصل في الحيّز الآخر ، إلا أنّا لمّا جوّزنا أن تحصل الذّات الواحدة دفعة واحدة في حيّزين معا ، لم يبعد أن تكون الذّات السّاكنة هي غير الذّات المتحرّكة ، فثبت أنّه لو جاز أن يقال: إنّه تعالى ذاته واحدة ، لا تقبل القسمة ، ثمّ مع ذلك يمتلىء العرش منه لم يبعد أن يقال : إنّ العرش في نفسه جوهر فرد جزء لا يتجزّأ ، ومع ذلك فقد حصل في كلّ تلك الأحياز ، وحصل منه كل العرش ، وذلك يفضي إلى فتح باب الجهالات (١).
ومنها قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] فلو كان إله العالم في العرش لكان حامل العرش حاملا للإله ؛ فوجب أن يكون الإله محمولا حاملا ومحفوظا حافظا ، وذلك لا يقوله عاقل (٢).
ومنها قوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُ) [محمد : ٣٨] حكم بكونه غنيّا على الإطلاق ، وذلك يوجب كونه تعالى غنيّا عن المكان والجهة (٣).
ومنها أنّ فرعون لمّا طلب حقيقة الإله من موسى ـ عليهالسلام ـ ولم يزد موسى عليهالسلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرّات فإنه قال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ففي المرة الأولى قال (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٤].
وفي المرّة الثّانية قال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٦].
وفي المرة الثالثة قال : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء: ٢٨]. وكلّ ذلك إشارة إلى الخلاقية ، وأمّا فرعون فإنّه قال : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) [غافر : ٣٦ ، ٣٧] فطلب الإله في السّماء ، فعلمنا أنّ وصف الإله بالخلاقية ، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى وجميع الأنبياء ووصفه تعالى بكونه في السّماء دين فرعون ، وإخوانه من الكفرة.
ومنها قوله تعالى في هذه الآية : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).
وكلمة «ثم» للتراخي وهذا يدلّ على أنّه تعالى إنّما استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض ، فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار ؛ لزم أن يقال : إنّه ما كان مستقرا على العرش ، بل كان معوجا مضطربا ، ثم استوى عليه بعد ذلك ، وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة ، والسّكون أخرى ، وذلك لا يقوله عاقل (٤).
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.